من أنتم؟/ نائل بلعاوي

عبر هذا السّؤال يمكن للمرء التوغّل في سراديب العلاقة بين الحاكم والمحكوم، حيث يتمتع الحاكم هناك بسلطة شاملة وشمولية، تعادل سلطة الله وحده لا غير، وحيث المحكوم هو اللاشيء بالمطلق. ليكون السؤال “من أنتم؟” الأساس الفعلي الذي قامت عليه ثقافة الحكم العربية بالكامل، وهي الثقافة التي أنتجت بسخاء متواصل عشرات القذافي ومثله الأسد

من أنتم؟/ نائل بلعاوي

كاريكاتير بريشة بول توماس، "إكسبريس"


|نائل بلعاوي|

نائل بلعاوي

يعود السؤال أعلاه، بجدارة خالصة، إلى العقيد الطاغية.. ابن البادية والخيمة وصائد الجرذان في الزنقات والبيوت والسّيد المطلق لكل الحماقات ونظريات اللاجدوى. فحين يخطر ذاك السؤال –من أنتم؟– على البال، يحضر العقيد، دون غيره، على الفور، وتحضر معه تلك اللقطات الخالدة التي تعكس شكلا من أشكال الصدق المتناهي مع الذات والآخر؛ إنه الصدق الذي لم نعرف له مثيلا يُذكر، عند الحاكم العربيّ، ولم نشاهد -من قبل- تطبيقاته الصريحة على الارض كما نشاهدها اليوم ونكتوي بنارها.

اِصطدم العقيد، دفعة واحدة، بحقيقة وجود الشعب الليبي، وكانت الصدمة أكبر حين أعلن ذلك الشعب عن نيته خلع القائد -المعادل الفنتازي للمكان وأهله- وإعادة الحياة إلى مُربّعها الأول، شديد البساطة والمُغيّب أبدًا: هذه القطعة من الجغرافيا تُدعى ليبيا، وهذه المجموعة السّكانية التي تقطنها هي الشعب الليبي، وما هذا العقيد الذي تجتمع في شخصه كلّ المكوّنات التي يتشكل منها الحاكم العربي: الغباء المفرط، الإحساس اليقينيّ بتمثيل الله على الارض والقدرة على إلغاء الآخر إلى حدود عدم الاعتراف بوجوده أصلاً. ما هو -أي العقيد- سوى عابر ثقيل الظلّ، طال مكوثه فعلا، وما عليه الآن سوى الرّحيل.

لم يتمكن العقيد من امتصاص صدمة اكتشاف شعبه تلك، والتعامل بحكمة، غير منتظرة، مع الحقيقة –الجديدة- وتجلياتها، فأعلن، بصدق قلّ نظيره، عن لا محدودية الصّدمة وطاقتها على اجتراح الغريب من ردود الفعل والجديد من المفردات، فجاء سؤاله الشهير -من أنتم؟- معبراَ صريحاَ عما يدور في خلد القائد العربي عامة من تصورات قبيحة عن فلسفة الحكم وماهية الآخر، الشعب، إن وجد؟ فها هو العقيد يصرخ عاليا من عنف الصدمة: “من أنتم؟”، وحين يتناهى الى مسامعه الجواب من شوارع المدن الليبية المترامية: “إرحل”، يتنازل الرجل ويعترف بوجود مجموعة ما، غريبة عن المكان، زاحفة من كوكب آخر لتدمير الجنة، وسلفية؛ عميلة للقاعدة والإمبريالية والصهيونية، وغير ذلك من قوى غريبة تتربص بالجنان العربية الفاتنة.

تنازل العقيد واعترف بوجود مجموعة غريبة وتخريبية المقاصد، ثم تنازل أكثر، انسجاما مع حركة ارتفاع الصوت في الشارع، واعترف بوجود كتلة سكانية فوق التراب الليبي، ولكنها كتلة “مريضة، ملوثة بحبوب الهلوسة وأوهام الوجود؛ إنها مجرد شيء ما يُعادل “الجرذان” لا أكثر، وما على العقيد -حارس الجنة- غير مواجهة الهجوم، وتنظيف جنته من جرذانها.

“من أنتم؟” هو سؤال اللحظة الراهنة بامتياز؛ هو سؤال الوجود العربيّ الذي حوّلته الأنظمة القذرة إلى دستور حكم مقدس، وما علينا الآن سوى اجتراح الأجوبة

يمكن لحكاية العقيد أعلاه أن تشكل بذرة رائعة لنصّ شكسبيري أو ماركيزي، ففيها من المآساة والملهاة وخفايا النفس البشرية، ما يصعد بها إلى حدود وتألق “الملك لير” و”هاملت” لشكسبير، أو “خريف البطريرك” و”ليس لدى الجنرال من يكاتبه” لماركيز. وقد يأتي الوقت الذي تتحوّل فيه الحكاية الدموية هذه إلى نصٍّ إبداعيّ ومتميز أيضًا، أما اليوم فيمكن اعتبار حكاية العقيد مع شعبه، وسؤاله العبقري: “من أنتم؟”، بمثابة المفاتيح السحرية التي ندخل بها إلى مغارة فكر التسلط العربي برمّته، لنعثر هناك على ما هبّ ودبّ من تعاويذَ ونصوص دينية وأخرى ثقافية ساهمت –مجتمعة- بإنتاج هذا المسخ الذي نعرفه اليوم عبر صفاته المتداولة: الزعيم العربي، القائد الملهم، إلى آخر الألقاب التي يحملها ملوك الأرض والسّماء ورؤساء الأبد وما بعد الأبد، أيضًا، بكثير.

في تلك المغارة المظلمة يبرز سؤال العقيد أعلاه بجلاء مثير؛ فعبر ذلك السّؤال تحديدًا، يمكن للمرء التوغّل شيئا فشيئا في سراديب العلاقة بين الحاكم والمحكوم، حيث يتمتع الحاكم هناك بسلطة شاملة وشمولية، تعادل -على الفور- سلطة الله وحده لا غير، وحيث المحكوم هو اللاشيء بالمطلق. ليكون السؤال “من أنتم؟” والحال هذه، هو الأساس الفعلي الذي قامت عليه ثقافة الحكم العربية بالكامل، وهي الثقافة التي أنتجت بسخاء متواصل عشرات القذافي ومثله الأسد.

قبل أن يعلن العقيد بقليل عن صدمته المدمّرة بوجود شعبه، كان مبارك يعلن عن صدمته، هو الآخر، بوجود الشعب المصري: “إما أنا أو الفوضى”، وهي الكلمات التي تحمل بين طياتها السؤال الأثير إياه “من أنتم؟” والذي يشير، في حالة مبارك، إلى الإحساس الفعليّ بألوهيّة خالصة، تجيز للإله الأب حق إصدار الأوامر بإخلاء ميدان التحرير وبكل الوسائل؛ قتل الثوار بعبارة أخرى. وهي الوسائل عينها التي أمر زين العابدين باستخدامها مع ثوار شارع بورقيبة. وكان الأخير قد قدم اعترافا مزدوجاَ، قبل أن يهرب بقليل، حين أعلن عن وجود الشعب التونسي، وعن استعداده هو -القائد المخلص- لاستيعاب رغباته: “فهمتكم”.

كان السّؤال الصريح “من أنتم؟” هو القاسم المشترك بين الأنظمة الدموية التي سقطت أو تلك التي تستعد للسقوط الحتميّ: العقيد الخفيف الباحث الآن عن وسيلة للهرب من وكر الجرذان؛ علي صالح الذي حط رحاله، جريحًا أم مخلوعًا لا فرق، في جحيمه السعوديّ الأخير؛ ثم الأسد، المحمول على أكفّ الاطفال وعذاباتهم إلى مصيره المنتظر.

عند الأسد والنظام الوحشيّ -بكافة المقاييس- الذي يمثله، تتجاوز ثقافة الحكم العربية البليدة نفسها ومخزونها، لتكشف عن طاقة امتصاص فذّة لكلّ ما هو رديء ودافع على التقزّز في التجارب الكونية المشابهة: النازية، الفاشية والقومية الحمقاء ذات البعد الشوفيني، الستاليني المرجع والاداء؛ فها هو النظام -منذ تولي الأسد الأب السلطة وحتى الآن- يمزج ببراعة بين تعاليم المدارس المذكورة أعلاه وتلك التعاليم المقدّسة، عربية الأصل، ليخرج علينا بهذا المستوى غير المسبوق من القباحة والشّرور التي تتوالد من بعضها البعض، بلا كلل أو ملل، وعلى امتداد العقود الأربعة الماضية.

خلاصة مدارس الشرّ وتعاليم الإلغاء المباح للآخر هو النظام السّوريّ؛ فلا رادع أخلاقيًا منتظرًا يمكن التعويل عليه لإيقاف ذلك النظام المُمعِن في صناعة الألم إلى حدوده القصوى. ولا أثر إنساني واحد في سلوك آلة القتل المُمنهج تلك؛ فالفكرة أقوى هناك من الدوافع الأخلاقية أو الإنسانية العامة؛ إنها فكرة النظام عن نفسه، عن تفوقه، عن صلاحيته المطلقة للبقاء والتسيّد، وهي فكرة النظام العربي الأثيرة: “من أنتم؟” وبثوبها الأكثرعنفًا هذه المرة.. حيث لا شيء إلا القتل في سوريا، لا شيء إلا القتل من أجل القتل هناك.

“من أنتم؟” هو سؤال اللحظة الراهنة بامتياز؛ هو سؤال الوجود العربيّ الذي حوّلته الأنظمة القذرة إلى دستور حكم مقدس، وما علينا الآن -نحن ضحايا السّؤال الوحشي وتطبيقاته المرعبة- سوى اجتراح الأجوبة… الأجوبة الاخيرة، تلك التي نحتفي بها اليوم وغدًا فوق شوارع بلداننا الزاحفة، بلا ترددٍ أو وهن، نحو الحرية.

(فيينا 2011)


المحرر(ة): علاء حليحل

شارك(ي)

أرسل(ي) تعقيبًا

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

يمكنك استخدام أكواد HTML والخصائص التالية: <a href="" title=""> <abbr title=""> <acronym title=""> <b> <blockquote cite=""> <cite> <code> <del datetime=""> <em> <i> <q cite=""> <strike> <strong>