فصل في مديح الحاضر/ رائف زريق

مايو 13, 2011 سياسة, مواضيع ساخنة | 3 comments

نصب الجندي المجهول في سوريا. استبداد المستقبل يسمح ببعض العنف والقتلى!

|رائف زريق|

رائف زريق

في آخر مقابلاته الصحفية التي أجريت مع فوكو، وُجه إليه السؤال التالي (والاقتباس بتصرف): “لقد أمضيت عمرك في تحليل الواقع ونقده لكنك لم تقدم لنا أيّ تصوّر إيجابيّ لبناء مشروع مستقبلي للمجتمع. لماذا؟”. كان ردّ فوكو سريعًا ومقتضبًا وواضحًا: لأنني كنت -ولا أزال- مشغولا بالإصغاء جيدًا إلى أصوات الحاضر”. كان فوكو يعبّر بذلك عن حساسية فكرية وأخلاقية ورثها عن معلمه وخصمه الفكري الأوّل في آن واحد، عمانويل كانط. “الإصغاء إلى صوت الحاضر” هو حساسية تقع في قلب الفكر الليبرالي السياسي التحرّري، بمعناه الأصيل كما تطوّر في القرن التاسع عشر، وقبل أن تتحوّل كلمة ليبرالي إلى ما يشبه الشتيمة في المشرق العربيّ.

ينجلي المعنى التحرّري في قدرتنا على “الإصغاء للحاضر” إذا ما قارنا الفكر التنويري الليبرالي بثلاث مدارس فكرية أخرى استحكمت على الفكر الانساني عامة، وعلى خيال المفكرين في المشرق العربي لسنوات عديدة، خصوصًا.

المدرسة الأولى هي المدرسة الدينية الخلاصية، حيث يبدو الحاضر عديم الاهمية مقارنة “بالآخرة”، حيث الغد هو الأهم. والغد الديني ما هو إلا عودة إلى ماضٍ سحيق، ماضي ما قبل خطيئة آدم والخروج من الجنة. والحاضر هنا يبدو كبعض الوقت الاضافي الذي منحنا إيّاه الربّ كي نتخلص من خطايانا وكي نجهز أنفسنا لمواجهة الربّ في الآخرة.

وقد يأخذ هذا الفكر منحًى سياسيًا، فيصبح الغد عودة إلى أيام الخلافة واستعادة لمجدٍ قد ضاع واندثر. هنا –أيضًا- يحضر الحاضر بصفته حالة شذوذ واستثناء بين ماضٍ قويم مجيد وغدٍ واعدٍ ومزدهرٍ. على أية حال يبقى الحاضر في خدمة المستقبل وعبدًا له، وتبقى حياتنا عديمة المعنى، خاوية خربة، ويجري الحكم عليها من منظار المستقبل وبقدر ما تقربنا من النهايات والغايات المرجوة، فالحياة ليست لذاتها وإنما لهدف أسمى منها سابق عليها.

غير أنّ هذا الفكر الدينيّ الخلاصيّ الذي يصادر الحاضر لم يبقَ في إسار الفكر الديني. إنّ الماركسية ببعض تأويلاتها الفجة، والوعد الحتمي الذي تقدمه لمجتمع الغد الشيوعي حيث يسود السلام والوئام، ما هي إلا صيغة علمانية لفكر خلاصيٍّ يصادر الحاضر ليجعله محطة عابرة في الطريق إلى الغد الموعود، حيث تتآخى الشعوب وتلغى الطبقات.

أما في الفكر القوميّ التحرّري الذي ساد العالم الثالث، فقد بدا الحاضر وكأنه جهنم بعينه (وإن كان في كثير من الأحيان كذلك)، بينما الغد سيكون الجنة بعينها. والغد هو غد ما بعد إنهاء الاستعمار وإعلان الاستقلال واستعادة الحرية والسيادة. أما الآن فإنّ القضايا الأخرى كلها مؤجلة- من قضايا العدالة الاجتماعية إلى حرية المرأة إلى غيرها من “القضايا الثانوية”. يترفع هذا المنطق عن “التفاصيل” ليتركّز في الصورة العامة، ويتأنف عن التمعن في الحالة العينية، وبالتالي فهو لا يرى الحدث بما هو عليه إنما بما يمكن أن يؤدّي إليه.

في كلّ هذه الصيغ الثلاث ينوء الحاضر تحت وطأة المستقبل، وتطغى مشاريع الغد على اللحظة الراهنة. يفتح هذا الفكر الطريق أمام إخضاع الأدوات (الحاضر) للأهداف والغايات (المستقبل). فإذا كانت الأهداف عادلة ومطلوبة ومرغوبة، فإنّ كلّ ما يقود إلى  هذه الاهداف ويستعجلها هو مقبول أيضًا. من هنا فإنّ الطريق للمقولة بأنّ الغايات تبرّر الوسائل لهي قصيرة جدًا، وهكذا يعتزل الفكر دوره النقدي ليقوم بدور تبريريّ جاهز.

والامثلة على هذا كثيرة؛ بدءًا بالحروب الصليبية، مرورًا بتبرير جرائم ستالين وبلبوت ووصولا إلى السهولة النسبية التي برّرت فيها قوى تحريرية عديدة عنفها ضد المستعمر وضد أبناء شعبها أحيانا أخرى، وكل ذلك باسم أهداف نبيلة وسامية وغايات مستقبلية مبرّرة. والأمثلة كثيرة على ذلك وآخرها تبرير القمع الوحشيّ في سوريا بحجة النضال ضد الاستعمار والامبريالية والصهيونية.

الخوف في كل تلك الحالات هو استبدادية الاهداف والغايات، أي استبدادية المستقبل، بحيث يجري إخضاع كلّ شيء إلى منطق واحد ووحيد وإلى سؤال واحد ووحيد: “كيف يقرّبنا هذا العمل من الأهداف والغايات المستقبلية؟ إنّ هذا المنطق يؤسّس لنوع خطير من العنف نحو الحاضر ومصادرته: لا بأس بقليل من الاعتقال هنا وهناك، ولا بأس بقليل من الدم، ما دام الأمر يخدم الاهداف الكبيرة في نهاية الطريق”.

طبعا، هذا لا يعني بأيّ حال من الأحوال التمترس في الحاضر، كما انه من الممكن للمستقبل ان يستبد، كذلك من الممكن للحاضر أن يستبد أيضًا. لا يمكن للأفراد ولا للشعوب أن تعيش بدون ماضٍ (ذاكرة)، كذلك لا تستطيع أن تعيش من دون مستقبل (الحلم). والمستقبل هو الأمل الذي لا بدّ منه والمؤهل بتحريرنا من وطأة الحاضر إذا استبد بنا، كما قال بريخت مرة على لسان أحد أبطاله: “الوقت.. أنت أمل هذا الشعب”. كل هذا صحيح ما دام التفكير بالمستقبل يحمل صفة الأمل، وليست صفة اليقين أو الحتمية، وما دام المستقبل أخًا للحاضر وليس أبًا له يوبخه متى شاء. بهذا المعنى يشكل المستقبل ذلك الحافز الذي يجعلنا نخرج من فراشنا مبتسمين صباحًا، ونفتح شباك غرفتنا ونردّد مع ناظم حكمت: “إنّ أجمل البحار لم نبحر فيها بعد، وأجمل النساء لم نلتقِ بها بعد”.

بهذا المعنى فإنّ مديح الحاضر الذي أورده هنا يهدف للالتفات إلى هنا والآن؛ إلى التفرس بالأدوات وليس بالاهداف، فقط، وللإصغاء إلى أصوات الحاضر، إلى صوت الألم الآنيّ المباشر، من دون تأطيره ومن دون وضعه في سياق تاريخي عام. قد يكون من الممكن -وقد يكون من الضروري أيضًا وضعه في سياق تاريخيّ وسياسيّ كي نفهم دلالاته البعيدة- لكن شريطة أن نفعل ذلك بعد أن نصغي إليه جيدًا ونتفرّس في تفاصيله.

أما الآن وهنا، وفي هذه اللحظة، فإنّ الخوف الكبير هو من أن يجعلنا هدير قطار التاريخ وضجيجه أصمّاء غير قادرين على التقاط أصوات الألم الخافتة.