منار زعبي: من الجدار إلى الحاجز نعود/ راجي بطحيش

منار زعبي: من الجدار إلى الحاجز نعود/ راجي بطحيش

تحيي زعبي سكوت الجدران المرشّحة لتصبح معالمَ أثرية بذاكرة تنزف حاجيات نسائية أو ترانس-جندرية، كالحبال والغسيل والدبابيس وجوارب النايلون الشفافة والخيطان الحميمة التي تنزّ عصارات سوداء وبيضاء، وجسد فرح وحداد وثكل وفقدان وغياب وحضور جامح يتحدّى الإسمنت وكلّ هذا البياض الفاني

(D1) without 2007-2

منار زعبي، “بدون”- 2008

>

|راجي بطحيش|

راجي بطحيش

راجي بطحيش

تذكرني أعمال منار زعبي بسينما المخرج النمساوي مايكل هانكه، وخاصة فيلمه المفصليّ بصريًّا ولجهة المحتوى “مخفي” من إنتاج عام 2005؛ فالطبقة البرجوازية وفق هانكه تتلطخ أيديها دائمًا بمجازر ما مهما كانت بريئة وحاولت الانشغال بالإنسانيات والدفاع عن حقوق الإنسان. فما يقوله هانكه -وخاصة في فيلم “مخفي”- إنّه أمام كل طبقة وسطى بيضاء صاعدة هناك جرائم كثيرة وكبيرة ارتكبت، بطريقة مباشرة أو غير مباشرة، وهي ما ضمنت وجود وتفوّق تلك الطبقة. فلدى هانكه يحيط فرسان البرجوازية الباريسية أنفسهم بجدران مليئة بالكتب المرتّبة بدقة مَرضيّة ومع حفاظهم على الحسّ الإنساني الرفيع والتعاطف مع المظلومين (على أن يظلّوا على الجانب الآخر من الجدار)، إلا أنّ روائح الجريمة وبقع الدم تنجح في الفيلم باختراق الجدار والتسرّب إلى الحياة المثاليّة والسعيدة لدرجة الملل، لكلٍّ من دانييل أوتوي وجولييت بينوش. وهكذا هي أعمال منار زعبي: فينما نعتقد لسذاجتنا أنّ الجدار أو الحائط الفاصل هو منتج نهائيّ لا يمكن اختراقه، ولا يمكنه احتضان حياة -أيّ حياة- كما أنه لا يستطيع أن ينزف أيّ ذاكرة فجأة، تصحّح لنا زعبي تلك الاعتقادات الخاطئة بشياكة متملّصة كالزئبق، شياكة لا يمكن الإمساك بها أو تطويقها بخطاب الهويّات الذي يفرضه عادة الأقوى عضليًّا أو عسكريًّا.

فكما أنّ الهوية والحاجة لأن يُحدّد كل مرء ما هو وما هي هويته بالقياس لما هو مهيمن، هي منتج ذكوريّ غربيّ، فإنّ الجدار أو الحاجز أو الحكر والإسمنت كمواد غير متفاعلة يمكن إدراجها تحت نفس التصنيف. فمن جدار برلين وجدران جنوب أفريقيا غير الفيزيائيّة، مرورًا بجدار الفصل العنصريّ في فلسطين والجدار الذي بناه الأمريكان والذي يفصل بين أحياء الكاظميّة والأعظميّة في بغداد… الفكرة هي ذاتها، هم “هناك” ونحن “هنا”. فمن يبني الجدار هو ذاته من يُفترض أن “نعترف” أمامه بهويّتنا وذلك وفق نقطة قياسه وابتداءً من عنده، إذ أنّ الرجل الأبيض الذي يضع المقاييس والأبعاد وفوارق التوقيت ويحدّد الشمال كقيمة واتجاه أعلى والجنوب كاتجاه أسفل وأدنى، فإنه لا يملك هوية.. بمعنى أنّ هويته تساوي (0)، ومنها نبدأ بقياس هويّتنا والتصرّف وفقها، والأهمّ من ذلك عدم الحياد بصدد ما بُني حولها من جدران.

تعيد منار زعبي في أعمالها تحديد ماهية الجدار والحائط لتبيّن أنّ تلك المواد ليست نهائيّة حتمًا، بل غالبا ما قد تنفلت حياة ما من بين مسامات الجدار ومن بين فراغات أحجاره، حياة قد تصفعنا وقد تنزلق إفرازاتها وعصارات جثثها الأخيرة نحو حيّزنا “الآمن”، “المتحقق” والمعقم والمثخن بالمحاليل المركّزة لإبادة الجراثيم. وعطفا على كلّ ذلك قد يرغب زائر المعارض الليبراليّ- اليساريّ بالتملّص من كوابيس الشعور بالذنب التي تطارده ليلا عبر احتكاره العصابيّ لمفهوم الأخلاق الفضفاض وتقبّل حياة “الآخرين” و”الأقليات” والتعاطف مع المقموعين والمجذومين والسُّود على حدّ سواء، شرط اعترافهم “بأخرويّتهم” وتثبيتها بعقد موقّع، إضافة إلى شرط آخر وهو عدم تجاوزهم للجدار كي لا تتّسخ المناطق الخضراء المعقّمة.

ما تقوم به منار ضمن هذا السياق، أنها لا توافق على الشرطين أصلا ومن جذورهما؛ فلا هي توافق على كونها “آخرَ” ولا هي تتبنّى خطاب الأقليّات المقموعة ضمن موتيفاتها الفنيّة التي تشكّل مشروعها، وهي بذلك لا تقدّم للمتفرّج المتوسّط أو ذلك المعجب بإنسانيته المفرطة الهديّة التي ينتظرها منها بفارغ الصبر، كي يشعر بالراحة في التعامل معها ومع ذاته ليطلق نظرته الهويّاتية المبارِكة لأعمالها. وتتلخّص هذه الهدية بكلمات أخرى بكونها: امرأة، فلسطينية ومسلمة… مثلا، لكي يسهل على زائر المعارض المناوب إدراج منار ضمن فئة هويّاتية لا تتحقق سوى بإثارة تعاطفه معها. فمع كون منار تستخدم الأقمشة ومكوّناتها بكثرة إلا أنها تمتنع في كافة أعمالها قاطبة عن استخدام موتيفات التطريز الفلسطينيّ أو الكوفيّة مثلا.

الحائط في أعمال منار زعبي ليس ساترًا اسمنتيًّا يفصل بين مكان ومكان وبين الخير والشر، بل إنّه يخون الرجل الذي بناه ويطرح حياة غير متوقّعة تنتهك الفصل الذي يفترض أن يكون نهائيًّا؛ ففي “عشب أخضر أخضر” (2008)، تنزف الأحجار المقدسيّة الصلبة والصماء أسلاكا حمراء عشوائية خارج سيطرة البشر، قد تكون نزيفًا لحيوات كانت أو حياة تريد أن تتشكّل، وكذلك ذكريات عذبة مسجونة ضاقت بها كثافة وسماكة الأحجار فصارت تخترق الفراغات والثغرات التي لم ينتبه لها أحد، لتتسرّب وتتدلّى نحو الخارج  حاملة رسائل الحبّ والحرب والاشتياق والحاجة والاحتياج والغياب- الحضور.

في “حمى” (2014) لا تُبقي منار المتفرج على مقعده الوثير، يتأمّل جسدًا يتلوّى ألمًا أو غضبًا أو ذاكرةً، بل تقوم بفعل خبيث أو أفعال خبيثة إذ تُدخل موسيقى “هشّك بشّك” أثناء تفتّت الجسد، وهي موسيقى قد يعتبرها المراقب المحدود والمشغول بالثنائيّات، موسيقى سعيدة ومبهجة لأشخاص غارقين في مجونهم، أمّا متفرج آخر فقد تحيله الموسيقى إلى ملانكوليا أفلام الميلودراما المصرية في الثمانينات من القرن السابق، حيث ترافق هذه النوعية المحدّدة جدًّا من الموسيقى المراهقات الفقيرات لحظة وقوعهنّ في أحضان الخطيئة عندما يغتصبهنّ رجل خشن متوحّش في بيت دعارة تملكه نعيمة الصغير ومشتقاتها. أمّا جسد الحمى فلا يبقى نظيفا ومعقما بل تواجه منار زعبي فيه مخاوف المراقب وتهدّد مساحته “المقدّسة” عبر السوائل السوداء التي تتدفق من الجسد الذي تقضمه الحمى أو حمى الذاكرة، من دون هوادة ومن دون توقف لتتقدّم السوائل بدورها وبدائرة تتّسع وتتّسع نحو مجال رؤية الجالس لتخنقه وتصبغه بالسواد وبأحاسيس الذنب التي لا تنتهي على مجمل جرائم غير واضحة ارتكبها وبأثر رجعيّ.

في منشأيْ “بلا” (2007) و“بدون” (2008)، يفقد الحائط الأبيض الذي اعتقد أنّه نهائيّ وحاسم، السيطرةَ على بياضه؛ ذلك الحائط الذي بُني وشُيّد ليشكّل واقعًا ويفصل بين من هم “بدون” ومن هم “مع”. تنتهك تلك النقاط السوداء التي تبدو كالنمل أو بقع العفن البياضَ الخالصَ والمعقّمَ وتتسلل أذرع ناعمة منها يمينًا ويسارًا تاركة السرب بخفة يمكن السيطرة عليها من جهة، وباقتحام مرعب ومهدّد يتلوّى بعنف ثعبانيّ مُستتر من جهة أخرى. أمّا حين تكون تلك النقاط النمليّة وبقع العفن عبارة عن دبابيس شعر سوداء -وهي قطعة رقيقة وحميمة عابرة للجندر ومتحدّية للتدريج والتصنيفات والثنائيات القامعة- فإنّ القراءة تبقى -وكما الحال في كل أعمال منار زعبي- عمليّة فرديّة تتباين بين مُتلقٍّ ومتلقٍّ آخر ومُتلقٍّ يعتبر نفسه “آخر” أبديًّا. يرافق ذلك الجدل في القراءة عمل مثل “على حافة الأبيض” وهو عمل راقص وتشكيليّ مشترك لمنار وشادن أبو العسل، إذ يُطرح السؤال: هل تحاول منار عبر نصب جدران خيوطها السوداء سجن شادن والحدّ من حركتها أم أنها تحاول حمايتها عبر ملانكوليّتها الفائقة الصامتة حيث لم يتبقَّ هناك ما يُقال؟!

تحيي منار زعبي سكوت الجدران المرشّحة لتصبح معالمَ أثرية بذاكرة تنزف حاجيات نسائية أو ترانس-جندرية، كالحبال والغسيل والدبابيس وجوارب النايلون الشفافة والخيطان الحميمة التي تنزّ عصارات سوداء وبيضاء، وجسد فرح وحداد وثكل وفقدان وغياب وحضور جامح يتحدّى الإسمنت وكلّ هذا البياض الفاني والفالي.

(منار زعبي: فنانة فيديو آرت ومنشآت فلسطينية، تعيش وتعمل في الناصرة. عُرضت أعمالها في جاليريهات ومتاحف في أنحاء البلاد وأوروبا. أصدرت مؤخّرًا كتالوجًا يشمل مجمل أعمالها وذلك بعنوان “على خيط رفيع”- 2015.)

.

منار زعبي، "حمّى"- 2015

منار زعبي، “حمّى”- 2015

.

منار زعبي، "حمّى"- 2015

منار زعبي، “حمّى”- 2015

.

منار زعبي، "عشب أخضر" - 2008

منار زعبي، “عشب أخضر” – 2008

.

منار زعبي، "بدون"- 2008

منار زعبي، “بدون”- 2008

.

On The Edge Of White-2

المحرر(ة): علاء حليحل

شارك(ي)

أرسل(ي) تعقيبًا

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

يمكنك استخدام أكواد HTML والخصائص التالية: <a href="" title=""> <abbr title=""> <acronym title=""> <b> <blockquote cite=""> <cite> <code> <del datetime=""> <em> <i> <q cite=""> <strike> <strong>