كابوس الأرض اليباب – 4؛ لا “أين” على الأرض اليباب/ رياض مصاروة

كابوس الأرض اليباب – 4؛ لا “أين” على الأرض اليباب/ رياض مصاروة

انكمشت على نفسها فتاة الزنابق، ركعت على ركبتيها، ضربت رأسها بالأرض وسألت: ما الذي يضحكك بفكرة الذهاب؟ المضحك بالفكرة أنك لا تستطيعين القول إلى أين، لأنه لا يوجد “أين” في هذه الأرض الخراب يا افيجينيا، وأنت هي سر الأين هذا.

Lily Petal

| رياض مصاروة |

هل ستتحول حياتنا إلى صدى عندما نفقد كل مقومات الوجود؟ هل كان لها صوتا واضحا كي يتردد صداه؟ وهل سيتبدد صدى المأساة على الأرض اليباب؟ طرحت الفارعة هذه الأسئلة وهي تبتعد عن فتاة الزنابق لتهييء نفسها لانتظار حكاية، لانتظار فصلا من فصول أسطورة ترفض بطولة أي إله ترفض بطولة المبشرين، ترفض التنجيم، وترفض بطولة أي مخلص، مهديا كان أم مفكرا سيظهر من ركام الخراب والموت.

 أصابتها الرجفة بين تبدد الصدى وسرعة جريان شريط ذاكرتها، عندما توقف عند صورة الانفجار في باحة ذلك المسجد المقدس في القدس. كان ذلك يوم جمعة، الذي اختلف عن أيام جمعة سبقته، فيها كان الموت بمثابة رقصة على أنغام الرصاص الذي انطلق من فوهات بنادق”جنود الله” بإيقاع حفظته الأجساد الراقصة المتساقطة عن ظهر قلب، وكأن القاتل والمقتول كانا  على اتفاق هارموني في عزف السيمفونية المتكررة… نعم، كان موعدا أسبوعيا بين فريقين. فريق يجمع كل قوته الإيمانية على مدى أسبوع، يفرغها بابتهال إلى آله جالس على عرشه منهكا، بالكاد يسمع، وبالكاد يرى، وبالكاد يشم رائحة الرصاص والموت.. وفريق لا يحتاج إلى أسبوع كامل ليتمرن على ايقاع الموت، إنه مدجج بآلة، ومدجج بالأحاسيس “الموتية”، والأصبع الضاغطة على الزناد تتلقى الأوامر من وعي أوتوماتيكي، لا يحتاج إلى ترتيب الأسباب التي تعرف النتيجة، وعي مصمم في مراكز البحث والقتل وفي مراكز صناعة الموت.

دارت هذه النتف من الأفكار في رأس وصدر الفارعة وهي تنظر باتجاه ذلك الصوت الذي يتبدد صداه، تحول إلى صرخة واضحة: “اللعنة عليكم جميعا”، توقفت عن الخطو البطيء لتخرج من حلقها ووعيها جملة تؤرقها ستتعامل معها فيما بعد، ولكن عليها أن تقولها لنفسها: قتلتنا الرمزية…

دهشت من نفسها. ماذا يعني ذلك؟ ولماذا أفكر بهذا الشكل؟ لماذا أقول ذلك؟ ما هي هذه الرمزية؟ متى ستتجمع كل الصور التي من الممكن أن تفكك هذه الرمزية، التي على ما يبدو أنها ناتجة عن وعي مسكون بأساطير موغلة في الزمن؟ وطرحت على نفسها السؤال الآخر قبل أن تصطدم عيناها بعيني صاحبة الصوت اللاعن: وهل اللعنة تكمن باصطدام الأساطير الموغلة في القدم، أساطيرنا وأساطيرهم؟ تبا لك أيتها الرمزية الأسطورية، وهل وجودنا يتلخص بأسطورة، وهل وجودهم يتلخص بأسطورة؟ وما قيمة الأساطير على الأرض اليباب؟

وقبل أن تثبت قدميها على نقطة انتظار صرخت فتاة الزنابق باتجاه الفارعة: أنا ذاهبة..! انتظرت رد فعل ولكنه لم يأت، صرخت مرة أخرى: أنا ذاهبة…أنا ذاهبة!

نجحت الفارعة أن تطلق ضحكة جافة، ضحكة عقيمة ذات سخرية سوداء. ما الذي يضحكك؟ سألت الفتاة. وهل أصبحت في موضع السخرية في رأسك الذي لا أعرف ما يدور في ثناياه؟ أنا أضحك من فكرة “الذهاب” يا افيجينيا، قالت الفارعة مخفية بقايا ضحكتها. افيجينيا؟ سألت الفتاة؟ افيجينيا؟ أليست هي افيجينيا القائلة: “لا تذبحوني قبل موعدي؟ ردت عليها الفارعة.

انكمشت على نفسها فتاة الزنابق، ركعت على ركبتيها، ضربت رأسها بالأرض وسألت: ما الذي يضحكك بفكرة الذهاب؟ المضحك بالفكرة أنك لا تستطيعين القول إلى أين، لأنه لا يوجد “أين” في هذه الأرض الخراب يا افيجينيا، وأنت هي سر الأين هذا. دهشت الفارعة للمرة الثانية من نفسها ومن صيغ أنتجها داخلها في لحظة تجل، اقتربت من الفتاة، أنهضتها برفق، قبلت جبينها وأضافت: حتى الآن لا يوجد “أين” نذهب إليه يا فتاتي، الأين يحتاج إلى صوت رعد تنتجه غيوم سوداء كثيفة، الأين يحتاج إلى شمس ليست خجولة، تنير الأين هذا…الأين يحتاج إلى تبدد صوت المأساة، لا أين لك، لا أين لي في هذا الآن الأبدي، ألأين سيظهر عندما نبدد أبديتنا، عندما ترتاح اللعنة… تعالي ننتظر حكاية أخرى. ولكنني لا أعرف حكايتك قالت فتاة الزنابق مبتسمة… ابتسمت لها الفارعة بالمقابل وقالت: “ها أنت تبتسمين”. أنا أبتسم لأنني نجحت أن أسقط من عيني دمعة هادئة، والدمعة الهادئة يا فارعة هي مؤشر “أيني” الذي أحس به الآن، ولكني لا أريد أن أذهب إلى أيني قبل أن تزهر الزنبقة الحمراء على بقعة دمه، هو القائل لي مرة جمالك يخيفني يا فتاتي، وأنت تخافين علي من جمالي، وأنا لا أعرف كنه هذا الخوف، ولأول مرة في حياتي التي لا “أين” لها كما تقولين، أخاف من خوفي المجهول، إذ لا يمكن أن يخبأ لنا شيء ما بدون “أين”، وهل المخبأ في اللاأين هذا يرعبك إلى هذا الحد، يرعبك لأنك تعرفينه ويرعبني أكثر لأنني لا أعرفه، بالله عليك قولي لي ما هو هذا المخبأ لي في هذا اللاأين؟

فوجئت الفارعة من هذا الخطاب الذي تجلى من داخل مجروح استطاع أن يفرز دمعة هادئة ما زالت عالقة على وجنة الفتاة، وهي بدورها استطاعت أن تسمح للدموع المحبوسة في داخلها وفي صدرها أن تتساقط وكأنها سيل من نبع خافت عليه من الجفاف، وهي التي تعرف أن الدموع هي التي تحتفظ بإنسانية الإنسان، بإنسانية المحب، المرتجف، الراعش، كانت بحاجة إلى هذه الرعشة ولم يهمها أن كانت الدموع هذه على ما مضى أو على ما سيأتي، لأن الآتي لا يمكن أن يكون أسوأ من الذي مضى…من يعرف قالت لنفسها عندما ضمت فتاة الزنابق إلى صدرها… كانتا بحاجة إلى هذا الملمس، كانتا بحاجة إلى حوار دقات القلب المتصاعد إيقاعها، كانتا بحاجة إلى المواساة المتبادلة.

 أركنت فتاة الزنابق رأسها على كتف الفارعة التي تنظر إلى خيوط أشعة الشمس الخجولة وهي تهمس للفتاة: ستشرق، أقول لك أنها ستشرق، علينا أن ننتظر تبدد صدى المأساة، علينا أن ننتظر نهاية الحكاية، حكايتي، حكايتك، حكاية الشاكين الذين صمتوا ولم يكن بمقدورهم اطلاق صرخة الشكوى آنذاك، سأحكي لك حكايتي يا فتاتي، سأحكي، ولكن في البدء علي أن أسمع الآخرين، ها هي آتية، لا تتلفت لا يمينا ولا شمالا، لا تنظر إلى الخلف، يا إلهي! ما هذا الوجه البرونزي، ما هذه الخطى الواثقة، ما هذا الاعتزاز، وكأن بقايا الصخور تتفتت تحت قدميها؟ ما الذي يظهر هناك خلفها؟ إنها جموع محطمة، عرجاء. لماذا هذه الجموع حلفها؟ ماذا تريد منها؟ أفلتت الفارعة فتاة الزنابق وحررتها من انفجار حسي محتمل لتتفرغ لصاحبة الوجه البرونزي، التي ما زالت تردد “اللعنة عليكم جميعا”.. وقفت البرونزية على بعد عشرة أمتار من الفارعة وفتاة الزنابق، نظرت إلى الخلف رافعة يدها اليمنى آمرة تلك الجموع بالتوقف عن الزحف ورائها، جموع لا يمكن احصاءها، وإذا ما دقق المرء في وجوههم وانسل بينهم ليتفحص ما حل بهم من تشوه لما استطاع في هذه السهولة أن يصف خارجهم ولا داخلهم، ربما كان وصف الخارج أسهل وأهون، ولكن الداخل يشير إلى كتلة حطام كانت في يوم من الأيام بشرية، واذا ما هوت نهائيا ستتجمهر الطيور الجارحة فوقها لتنشد نشيدها على إيقاع النهش وخبطات الأجنحة، تلك الطيور الآتية من الجهة الغربية لنهر الفرات، آتية عبر البحار لتكمل مهمتها معلنة عن انتهاء فصل من فصول أسطورة لم يكن بطلها أي اله، أسطورة لم تكن بحاجة إلى بطولات بشرية.

تلقت الجموع حركة اليد إلى أعلى كأمر بالتوقف، وحركة اليد النازلة كفها باتجاه الأرض كأمر بالجلوس على الأرض. عرفت صاحبة الوجه البرونزي أن تدافعا ما ولو كان بطيئا سيحدث جراء سقوط بعض الأجساد التي ستتحول إلى جثث وتترك مكانها إذا ما تقدمت الجموع المتبقية. التصقت فتاة الزنابق بالفارعة مرتعدة وصرخت: يا إلهي! تحررت ضحكة من جسد صاحبة الوجه البرونزي، ضحكة، شكلها الخارجي والداخلي ساخر. توجهت إلى الجموع المتهاوية سائلة: هل سمعتم هذا النداء: يا إلهي؟ لماذا كففتم عن هذا النداء: يا إلهي! ألم تقدموا طوال حياتكم الأدلة على العرفان والخنوع؟ العرفان له والخنوع لمن أذلكم وبطش بكم؟ وجدتم بي سبب هلاككم، لعنتموني ورجمتموني بالحجارة لأنني أشرت إلى خنوعكم وإلى عرفانكم لشيء لا وجود له في داخلكم وانما أوجدتموه كي تغطوا على عجزكم الآني والتاريخي، أنتم ثمرة العجز الموروث، ثمرة الخرافات، ثمرة تاريخ مفتعل ومزيف، اللعنة عليكم، اللعنة عليكم جميعا.

من أنت؟ سألت الفارعة وهي تهديء فتاة الزنابق. من أنت؟ ولم هذه اللعنة؟ وأي تأثير للعنة على جموع منهكة؟ لم تأبه صاحبة الوجه البرونزي لأسئلة الفارعة وذلك لأنها ركزت نظرها بفتاة الزنابق المرتعدة، الخائفة، المرتجفة. لماذا تنظر الي بهذا الشكل وجهت سؤالها إلى الفارعة، هل تعرفني؟ هل تعرفت علي؟ وماذا تريد مني؟ هل تعرفت على وجهي؟ يجب أن أترك هذا المكان اللعين، ولكن إلى أين أذهب، هل اختفى ذلك الأين حقا يا فارعة؟

اقتربت صاحبة الوجه البرونزي من فتاة الزنابق، انتزعتها عن جسد الفارعة التي ذهلت وأصابها الخوف في هذه اللحظة. أبعدتها جانبا، أمسكت بها بيدها اليسرى وباليمنى تناولت قطعة قماش بيضاء، أجلستها أرضا بعنف وبدأت تمسح الغبار الأسود عن وجهها، وكلما وضحت معالم الوجه ازداد عنفها حتى ظهرت معالم الوجه. بعد أن فرغت من مسح الغبار ابتعدت البرونزية بمسافة متر واحد فقط، دققت النظر أكثر، أدخلت قطعة القماش في جيب بنطالها وقالت: أنت هي إذن؟ فتاة الزنابق الدمشقية؟ أنت هي التي تبحث عنك هذه الجموع المنهكة؟

من أنت؟ سألت فتاة الزنابق. يسمونني الخائنة، الخائنة قاتلة أطفالها. أجابتها وتوجهت إلى الجموع التي حاولت النهوض مع شكل ابتسامة باهتة مرددة بصوت مخنوق: يا إلهي. أشارت البرونزية بيدها أن يعودوا إلى حالتهم الراكعة. وقالت: لم يحن الوقت للركوع لها. اجمعوا الجثث جانبا، وسيكون لنا حديث فيما بعد. تقدمت الفارعة من البرونزية وسألتها: من أنت؟ أنا؟ أجابت صاحبة الوجه البرونزي. أنا هي الحكاية، ولدينا كل الوقت لسماع الحكايات،  يا؟ أنا هي الفارعة، يا؟ أنا هي ميديا يا فارعة، وأبحث عن قربان وجدته. ألم ينته زمن القرابين يا ميديا؟ ستنتهي إذا تخلصنا من السكن في الأساطير يا فارعة.

                                                                   يتبع

المحرر(ة): علاء حليحل

شارك(ي)

أرسل(ي) تعقيبًا

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

يمكنك استخدام أكواد HTML والخصائص التالية: <a href="" title=""> <abbr title=""> <acronym title=""> <b> <blockquote cite=""> <cite> <code> <del datetime=""> <em> <i> <q cite=""> <strike> <strong>