لحظة ميلاد الطاغية/ كريم قنديل

لحظة ميلاد الطاغية/ كريم قنديل

ينتهي صدام من ترديد الأسماء ليضيف مداعباً: “ما يكفيكم اللي بقى بالقاعة من حزب البعث العربي الاشتراكي؟” هنا ينفجر الحضور بالتصفيق الصادق، تصفيق من يحتفل بنجاته من موتٍ محتمل

.

|كريم قنديل|

لا تتكرر كثيراً اللحظة التي يعلن فيها الطاغية عن نفسه. تخيل أن هناك تسجيلا لهتلر وهو يقرر لأول مرة أن يكون “هتلرا”. تخيل أنك تشاهد تسجيلاً لنيرون و هو يخبر قيادات جيشه مثلاً: “بتمام السادسة مساء اليوم ابدأوا حرق روما”. فبالرغم من ولع الدكتاتور بنفسه، إلا أنه من النادر أن تتوافر له فرصة أو فكرة تسجيل اللحظة التي تعنون بداية عهده كدكتاتور. بالطبع لا يقرر أحد في لحظة بعينها أن يصبح طاغية. و لكن في لحظة بعينها يستطيع للمرة الأولى أن يفصح عن نفسه بمنتهى الوضوح و الصراحة.  صدام حسين لم يفته تسجيل تلك اللحظة بالصوت و الصورة..”اللي راح اقرا اسمه يقوم يردد الشعار و يغادر القاعة”

وخيم الصمت على قاعة الخُلد في ذلك اليوم الحار من شهر يوليو عام 1979. كان الأمر أسرع  من قدرة الكثيرين على الفهم. قبل بضعة أيام كان أحمد حسن البكر هو الرئيس الرسمي لدولة العراق. و اليوم، الثاني و العشرون من يوليو 1979 يقف الرئيس الجديد أمامهم و أمام الكاميرات التي تصور ـ بأمره ـ كل فاعليات مؤتمر حزب البعث، نافثاً دخان سيجاره في وجوههم. يرمقهم بنظرته الميتة و هو يخبرهم، أن بانتهاء اليوم، سيكون قد أرسل بعض الرفاق إلى الحياة الأخرى، بحجة تآمرهم على الحزب، و سعيهم لإسقاط نظام الحكم و تخابرهم  لصالح حافظ الأسد،  بقبولهم لخطة الوحدة بين العراق و سوريا.

ربما كان هناك الكثير من المتشككين عندما بدأ المؤتمر،  من هذا ابن البارحة الذي استطاع في صمت إحكام قبضته على كل شيء؟ كيف لم نفطن لهذا؟ ربما كان أكبر خطأ ارتكبه هؤلاء المتشككون، أنهم لم يبذلوا جهداً صادقاً في إخفاء حقيقة آراءهم فيه، و تقلده منصب الرئيس. بدأ صدام المؤتمر بالتلميح بأن لقاء اليوم لن يكون احتفالياً صرفاً. تكلم عن كون ثورة تغير حال المجتمع، لا بد و أن يكون لها أعداء. تكلم  كثيراً عن المؤامرات التي تحاك داخل الحزب، عن الخونة. عن ضرورة التعامل الفوري معهم. الكاميرات تطوف القاعة، مكافحة العرق و الحر هي الهم الشاغل للبعض. من آن لآخر ينهض أحد المتحمسين هاتفاً : ” فليعيش حزب البعث العربي الاشتراكي يااااا” فيرد عليه البعض بكسل: “يعيش”  تمر الدقائق طويلة. لم تعد هناك جدوى من محاولات تجفيف العرق. رائحة سيجار الرئيس تغمر الصفوف الأولى.  ثم ألقى بالمفاجأة الأولى حينما أعلن أن أحد المتآمرين من قيادات الحزب سوف يدلي باعترافات مفصلة أمامهم الآن، و دعا (محيي عبد الحسين المشهدي) للوقوف أمام الجمع و التحدث. المرعب في الأمر أنه كان يتعامل مع “الخائن المعترف” بتودد أبوي شديد. بل أنه ترك له مجلسه على المنصة و نزل ليجلس هو في الصف الأول بين الحضور، كي يريحه من طول الوقفة.

عاد صدام إلى المنصة بعد أن انتهى (المشهدي) من اعترافاته و هو يقترب من الانهيار النفسي. كانت الأجواء قد تغيرت الآن. التوتر هو سيد الموقف. لا يعلم أحد إن كان سيخرج اليوم عائداً إلى منزله، أو إلى محبسه، أو إلى مشنقة. ثم ماذا أدراك أنها مشنقة؟ ربما سيكون الإعدام رمياً بالرصاص؟ ربما الذبح هو الطريقة المفضلة لدى الرئيس الجديد (أبو عديّ). صار جلياً الآن لماذا حرص صدام على تصوير الجلسة. لماذا تعددت الكاميرات. كان صدام يعد خشبة المسرح  لإنتاج أقوى رسالة تحذير مسجلة في تاريخ العراق. لا مجال للمعارضة. تكلم بعض الوقت مجدداً عن الخونة، قال عبارة أو اثنتين على غرار: “بكرة تشوفوا العراق… حتبقى قد الدنيا” ثم بدأ الفصل الأهم من العرض.

“إيش لون نتصرف ويا الخونة بالنوايا؟ و إنتوا تعرفون ماذا يجرى لهم هؤلاء الخونة … لا شيء غير السيف”  يقولها صدام بتأنٍ شديد. يجب أن يصل المعنى كاملاً. تلتهب أكف الحضور بالتصفيق. ينتظر هو حتى يهدأ التصفيق. يأخذ نفساً من سيجاره، ينظر للسيجار، ثم ينظر للحضور. كل حركة محسوبة بالملّي. كل وهلة انتظار بين جملة و أخرى لها مقدار محدد. ثم يلقي بالقنبلة الأكبر: “اللي راح اقرا اسمه يقوم يردد الشعار و يغادر القاعة” ثم يبدأ صدّام في ترديد أسماء الخونة من كوادر الحزب. يقف الواحد تلو الآخر ليغادر. يقف واحد منهم محاولاً الدفاع عن نفسه. لا يكاد أحد يسمع صوته. ولا يعبأ به صدّام،  يكرر عبارته دون أن ينظر للرجل: “اللي راح اقرا اسمه يقوم يردد الشعار و يغادر القاعة”  فيخرج الرجل.

ينتهي صدام من ترديد الأسماء ليضيف مداعباً: “ما يكفيكم اللي بقى بالقاعة من حزب البعث العربي الاشتراكي؟” هنا ينفجر الحضور بالتصفيق الصادق، تصفيق من يحتفل بنجاته من موتٍ محتمل. ينهض رجل اختنقت أنفاسه بالبكاء ليهتف بهستيريا: “نحن فداك يا بو عدي” ترتفع أصوات النهنهة، لا يخفي البعض مشاعره فيخرج منديلاً ليخفي فيه وجهه الباكي، ثم يتدارك خطأه المحتمل فيكمل بالمنديل مسح عرق وجهه. لا، لم أكن أبكي، هو العرق يا ابو عديّ… الرحمة. هنا لا يفوت صدام أن يكلل المشهد المخيف بلمسة درامية لا تزيد الأمر إلا بشاعة في رأيي. فيخرج منديله، ماسحاً دموعاً لا أعلم إن كانت قد خرجت بالفعل، أم أن اللمسة المسرحية كانت أكثر إغراءاً، بحيث لم تكن هناك حاجة لخروج الدموع بالفعل كي يمسحها.

بنهاية اليوم، كان الجميع يهتف بحماس غير مسبوق: “نحن فداك يابو عدي، نموت و يحيا ابو عدي” لم يعد هناك ذكر لحزب البعث العربي الاشتراكي، لم يعد هناك مجال للهتاف لأي شيء أو شخص سوى لمن منحهم فرصة أخرى للحياة. نتاج هذا اليوم كان الحكم بإعدام اثنين و عشرين شخصاً، و سجن ثلاثة و ثلاثين. و الإعلان عن مولد أحد أكبر طغاة العالم العربي، و الذي لم يبخل علينا أبداً بإنجاب المبدعين في هذا المجال.

(عن موقع قـُل)

المحرر(ة): علاء حليحل

شارك(ي)

أرسل(ي) تعقيبًا

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

يمكنك استخدام أكواد HTML والخصائص التالية: <a href="" title=""> <abbr title=""> <acronym title=""> <b> <blockquote cite=""> <cite> <code> <del datetime=""> <em> <i> <q cite=""> <strike> <strong>