في “التواصل” ومشتقّاته/ سليمان جبران

لو أصدر منظّمو الرحلة الليبية بيانا مشتركا يعترفون فيه بالخطأ، ويتناولون فيه مسألة التواصل بما تستحقّ من دراسة ومساءلة ذاتيّة، لانقضى الأمر فعلا

في “التواصل” ومشتقّاته/ سليمان جبران

تغطية الزيارة الصحافية في صحيفة "حديث الناس"

.

|سليمان جبران|

بعد عواصف التغيير في الشرق العربيّ، وهبّة الشعب الليبيّ الشجاعة في وجه جلاده بوجه خاصّ، كان طبيعيا أن يعود كثيرون هنا إلى مراجعة الزيارة الإشكالية التي نظّمتها “لجنة المتابعة”، في نيسان 2010، إلى ليبيا القذافي. بعضهم كتبوا ناقدين الزيارة بعنف، وآخرون من أعضاء الوفد، طبعا،  كتبوا مقالات اعتذاريّة تبريريّة. من بين الكتّاب “الاعتذاريّين”، كان المحامي جواد بولس الذي كتب قائلا: “بعض الإخوة صرّح وبعضهم كتب ناقدا وأحياتا بشدّة، الزيارة ومن شارك بها. لا أتوخّى بدوري أن أناقش هؤلاء، فلهم الحقّ، كلّ الحقّ، بأن يقولوا رأيهم. لا بل أعتقد أنّ هناك حاجة ماسّة لإجراء تقييم موضوعي ومسؤول حول الزيارة” (موقع الجبهة، 25/2/2011).

بناء على رغبة الأستاذ المذكورة، سنحاول في مقالتنا هذه أن نكون موضوعيين، ما استطعنا إلى ذلك سبيلا؛ نأتي بالوقائع كما تكشّفت في كتاباتهم نفسها، نناقش الدعاوى التي طرحوها في تبرير الزيارة، ونتناول ببعض التوسّع نهج “التواصل” ذاته فكرا وواقعا. لا نرمي بمقالتنا هذه إلى “هجاء” أحد من المشاركين، ولا فائدة ترجى أصلا من اللوم والتقريع وقد غدت هذه الرحلة جزءا من الماضي. نكتفي فقط بإيراد ما كتبه بعضهم باسمه الصريح، حرفيّا بين مزدوجين، لنؤسّس عليه رؤيتنا وما يمكن استخلاصه من دروس. هناك أخيرا “أسرار” حول تصرّفات بعض المشاركين في الرحلة سمعناها شفهيّا، ولم توردها الصحافة، إلا أنّنا لن نأتي بها طبعا في هذه المقالة لأنها تخصّ القشور لا الجوهر. على كلّ حال، يمكن للراغبين في تفاصيل أخرى، أغفلناها هنا، الوصول إليها في وسائل الاتّصال؛ فالصحافيّون من أعضاء الوفد غطّوا هذه الزيارة، بكلّ مراحلها، على أحسن وجه.

نبدأ أوّلا بالوقائع: في الوفد المذكور شارك 39 شخصا؛ من بينهم أعضاء كنيست حاليّون وسابقون، رجال سياسة من الأحزاب والتيّارات السياسيّة المختلفة، صحافيّون من صحف ومواقع إلكترونيّة متنوّعة، مثقّفون حزبيّون وشبه حزبيين ومستقلّون، السيّد عدنان جاروشي “رئيس الجالية الليبية في الرملة”،  وآخرون لا نعرف، بصدق، “المواصفات” التي أهّلتهم للمشاركة في الوفد. باختصار، يمكن القول في نظرة سريعة إنّ منظّمي الرحلة حرصوا أن يمثّل الوفد كلّ ألوان الطيف الفلسطيني في إسرائيل. جدير بالذكر، في هذا السياق، أن الرحلة هي رحلة “تواصلية” تمثيليّة فعلا، لا تقتصر على حزب أو جماعة أو تيّار؛ ما يدلّ أنّ “لجنة المتابعة” هي التي أقرّت في آخر الأمر من يسافر ومن لا يسافر. يبدو أيضا أنّ المنظّمين حرصوا على هذه التشكيلة التمثيليّة الدقيقة، خشية أن يزعل أحد لحرمانه من المشاركة في  الرحلة فيعارض ويكتب مندّدا قبل القيام بالرحلة، أو خوفا من النقد بعد العودة إلى البلاد: الجميع كانوا هناك معا؛ فلا يجوز لأحد أن يرفع صوته معارضا، بعد أن شارك هو في هذه الفعلة، أو زعيمه أو حزبه أو تيّاره أو صحيفته. شأنهم في ذلك شأن الثعلب الذي حاول إقناع الثعالب كلّها بقطع ذيولها، بعد أن انقطع ذيله هو في الفخّ!

الأمر الثاني يتّصل بالمبادرة إلى الزيارة: هل كانت الدعوة بمبادرة القذافي فعلا، بصفته رئيس القمة العربية، أم بادر إليها بعض من شاركوا فيها بالذات؟ معظم من كتبوا في هذا الشأن أكّدوا أنّ القذافي هو من دعا: “المغالطة مقصودة باعتقادي، وهي لذلك تصبح مزايدة، والمغالطة عندما يعيّر كاتبٌ الوفد بزيارة العقيد معمّر القذافي. لأنّ الوفد لم يبادر إلى زيارة ليبيا تحديدا، ولا نظامها ومن يقف على رأسه. فالكلّ يعلم أنّ المبادرة جاءت من القذافي، ليس بكونه زعيما لليبيا، بل لأنّه رئيس دورة القمّة العربيّة” (جواد بولس، المصدر السابق). من جهة ثانية، صرّح أحد المشاركين البارزين بأن طلب الزيارة انطلق من هنا بالذات، ولم تكن لتتحقّق لولا استجابة السفير الليبي في عمّان لهذا الطلب، والجهود المحمودة التي بذلها السفير عند العقيد خلال تسعة أشهر، لا أكثر ولا أقلّ: “سررنا بأنّ سعادة السفير محمد البرغثي، سفير ليبيا في الأردن، أصغى إلى طلباتنا على مدى الأشهر التسعة الماضية وبذل هذه الجهود المحمودة الني أثمرت هذه الدعوة وهذا اللقاء” (عضو الكنيست د. أحمد الطيبي، موقع بانيت، 24/4/2010). هل نجانب الموضوعيّة إذا قلنا إنّ إحدى الروايتين المتناقضتين أعلاه يجب أن تكون غير صحيحة؟

بعد هياط ومياط، التقى أعضاء الوفد بالأخ العقيد في خيمته المنيفة. من كلمة القذافي، المعروف بخطبه الطويلة، لم يبرز في التقارير الصحافية سوى نصيحة “نضاليّة” واحدة، أسداها مؤلّف “الكتاب الأخضر” للمشاركين في الوفد مشكورًا: أن يواظبوا على التكاثر الطبيعي، فينكحوا من النساء مثنى وثلاث ورباع! أمّا أعضاء الوفد فخطب منهم تسعة، وحُرم من الخطاب ستة لضيق الوقت. طبعا، لم يعجب الأمر الستّة الذين هُضم حقّهم في سوق عكاظ. لكنّهم كانوا، في نظرة ارتجاعيّة، محظوظين بحذف دورهم في هذه الاحتفاليّة الهابطة، فلا من رأى ولا من درى.

لكن ماذا كان مضمون الخطابات التي ألقيت على مسامع العقيد؟ بعضهم كان عاقلا، فمدح الرئيس بمقدار، وهل يمكن غير ذلك وأنت ماثل أمام “ملك ملوك إفريقية” في بلده، وفي خيمته؟ إلا  أنّ آخرين، وقد وقعوا على هذه المناسبة الغالية، لم يعرفوا قيودا ولا حدودا في مدح العقيد، على الطريقة التقليديّة في مدائح شعراء القرون الوسطى: “أيّها الأخ العقيد معمّر القذافي، قائد الثورة الليبيّة العظمى، مفجّر ثورة الحرّيات، ثورة العزّة والكرامة العربيّة، رجل السلام، رجل القيم والمبادئ. كنّا نحلم دائما أن نلقاك أيّها الأخ الكبير، نتحدّث إليك ونستمع إليك ناصحا مرشدا ومعلّما”. (عضو الكنيست طلب الصانع، موقع بانيت، 26/4/2010).

في تبرير الزيارة، وما رافقها طبعا، ذكر أحد المشاركين فيها عذرا لا يمكن أن يقبله المنطق: “لم يدرْ في ذهن أحد أنّه [معمّر القذافي] سيفعل ما فعله الآن. كلّ من يقول إنه كان يمكن التكهّن بهذه الأحداث لا يقول الحقيقة، ويذرّ الرماد في العيون” (عضو الكنيست أحمد الطيبي، صحيفة هآرتس، 28/2/2011). هل يعني ذلك أنّ الأخ العقيد كان قبل الثورة عليه “ملَكا كريما” فانقلب فجأة دكتاتورا مجرما؟ ألم يعرفه “زعماء 48″ قبل الثورة عليه فعلا؟ كيف راحت هذه على القادة المتمرّسين في التاريخ والسياسة؟! إلا أنّ بعضهم اعترف، بعد المقدّمات والتفسيرات والتبريرات طبعا، بالخطأ الفادح في القيام بهذه الزيارة: “ولحماية أنفسنا، أيضا من الازدواجية، أمام سفّاح ومجرم حرب على شاكلة القذافي، لا أستطيع، ألا أتذكّر حقيقة أنني جلستُ وهذا الشخص لمدّة ساعتين، تلبية لدعوة منه، كرئيس مؤتمر القمّة عندها. ولا أمنع نفسي، ولا أريد، من الخجل الذي ينتابني عندما أرى صوري معه” (عضوة الكنيست حنين زعبي، موقع عرب 48، 28/2/2011).

واضح ما في هذا المقتبس من شجاعة وصدق وخجل، وهي سجايا لا تغلب عادة على أخلاق رجال السياسة وهوامشهم. ولو كان منظّمو الرحلة الليبية أصدروا، بعد الرحلة، بيانا مشتركا واحدا يعترفون فيه بالخطأ، دونما تفسير أو تبرير أو تشاطر، ويتناولون فيه مسألة التواصل بما تستحقّ من دراسة ومساءلة ذاتيّة شاملة، لانقضى الأمر فعلا، وعرفت الجماهير الفلسطينيّة في إسرائيل ما هو النهج السليم المقترح لعلاقاتنا المستقبليّة بالبلاد العربيّة، مؤسّسات وشعوبا وأنظمة.

فقرة معترضة: كان للتواصل في مراحله المختلفة جانب ماليّ أيضا، لا نستطيع التوسّع فيه كما يجب، لأنّ المخفي فيه أعظم، ومعطياته الضروريّة للمساءلة غير متوفّرة. لكن لا مجال لإغفاله أيضا، وقد عرض له فعلا بعض من علّقوا على الرحلة الليبية: “لا أرى معنى وفائدة تتجاوز ما ذكرته من أهمّية لهذا التواصل، إلا إذا أضفنا ما يمكن أن يتوفّر من معونات ومساعدات أتمنّى أن تتعدّى دكاكين الأحزاب والجماعات” (جواد بولس، موقع الجبهة، 30/4/2010).

أموال كثيرة، بالدولار واليورو والدينار، تدفّقت على المواطنين العرب في إسرائيل، من مصادر مختلفة، في مراحل مختلفة، وعبر قنوات مختلفة أيضا. النوع الأوّل من هذه الأموال وصلنا في شكل معونات أو تبرّعات، من أنظمة أو مؤسّسات، في العالم العربي أو في العالم الواسع. إنّها أموال علنيّة، تدخل البلاد بصورة مشروعة، وتُرصد لمشروعات ثقافيّة اجتماعيّة محدّدة، والمفروض أنّها تخضع للمساءلة، ولحسابات دقيقة، وتقارير مفصّلة تقدّم لمانحيها. أموال “نظيفة” باختصار؛ شأنها شأن الهبة القطريّة لبناء ملعب “الدوحة” لكرة القدم في سخنين.

من ناحية أخرى، هناك أموال  كثيرة، كثيرة جدّا، من نوع آخر، تدفّقت على “الإخوة عرب 48″، وتلقّتها أحزاب ومؤسّسات وجمعيّات، وأفراد أيضا! هذه الأموال وصلت نقدا وعدّا،  دونما رقيب أو حسيب، بشكل غير مشروع طبعا، ولا أحد يعرف أين أُنفقت وكيف. حتّى المخابرات الإسرائيليّة، وهي “العليمة بكلّ شيء”، لا أظنّها تعرف المقدار الدقيق لهذه المبالغ، ولا العناوين كلّها التي تلقّتها. كان لي حديث مع  أحد المثقّفين الفلسطينيين “المطّلعين”، تطرّقنا فيه إلى هذا التواصل “النقدي” وسوءاته، فقال في تلخيص هذه القضيّة: ” لو وصل ويكيليكس إلى بند المدفوعات في منظّمة التحرير الفلسطينيّة، في فترة عرفات خاصّة، لأصابكم في إسرائيل الذهول من الأموال الطائلة التي عبرت الخط الأخضر، ومن قوائم الأسماء الكثيرة “البارزة” التي تلقّتها”. هذه باختصار أموال سوداء بالمعنيين؛ أموال فاسدة ومفسدة، أنبتت بيننا “وطنيين” كثيرين بالأجر المدفوع، وجعلت “التواصل” في نظر كثيرين مارسوا هذه اللعبة، غطاء لفساد كريه الرائحة. ليست لدينا القدرات والوسائل، كما أسلفنا، فنكشف هذه “الممنوعات” التي تواصلت مدّة غير قصيرة، ولا نستطيع، من ناحية أخرى، اعتماد الروايات الشفهيّة، المتواترة حينا المتضاربة أحيانا، فنوردها هنا. كلّ ما نرجوه هو أن يقوم غيرنا يوما، من ذوي الاطّلاع والمؤهّلات، بهذه المهمّة الشاقّة في تقصّي الوقائع وإثباتها ونشرها على الملأ، ليتعرّف الناس على جميع الذين ريّشوا لقاء “النضال الوطني” المتواصل. انتهت الفقرة المعترضة!

كان طبيعيّا أيضا أن تذكّر الرحلة الليبيّة برحلات تواصلية كثيرة كانت قبلها، إلى بلاد الشام بوجه خاصّ، من باب الشيء بالشيء يُذْكر. يلفت النظر أن عضوة الكنيست حنين زعبي، من التجمّع الوطني، هي بالذات من أعادت الرحلات الشاميّة إلى الأذهان، في معرض الذمّ للرحلة الليبية والتذكير بما كان من “حسنات” في الرحلات السوريّة السابقة: “نحن،  في التجمّع، ذهبنا لسوريا، سوريا النظام أيضا، ومن هناك، وبسبب هذه العلاقة، أتيح للآلاف زيارة أهلهم” (المصدر السابق). أمّا المحامي جواد بولس فعمد في دفاعه عن الرحلة الليبيّة بالذات، إلى تذكير اللائمين بالسابقة السوريّة، فلا الأسد في رأيه خير من القذافي، ولا الرحلة إلى دمشق أنقى وأرقى منها إلى طرابلس: “بملاحظة عابرة لأولئك الملوّمين والمذكّرين بما فعلته ليبيا بإخواننا الفلسطينيّين أقول: كفاكم رياء وديماغوغيّة. فما فعلته ليبيا هو قطرة في بحر ما فعلته أنظمة أخرى اعتبر التواصل معها نصرا، ومن نسي فليعدْ بالذاكرة إلى أيّام تل الزعتر وغيرها” (بولس، المصدر السابق؛ وانظر المقارنة ذاتها أيضا: المحامي جواد بولس، موقع الجبهة، 11/2/2011).

من يقرأ كلام الزعبي أعلاه يتوهّم فعلا أن حزب التجمّع قام بالرحلات إلى سورية ليجمع الآلاف من العرب في إسرائيل بأقاربهم هناك، من باب “لمّ الشمل”. صحيح أنّ كثيرين سافروا تحت مظلّة التجمّع، أو تحت مظلة نائب الكنيست السابق د. عزمي بشارة، بتعبير أدقّ. إلا أنّ جمع الأقارب لم يكن الغاية من هذا “التواصل”، بل كان تغطية له في أحسن الأحوال. ثمّ إن جواد بولس على حقّ حين يقرّر أن النظام السوري ليس خيرا من النظام في ليبيا؛ وإذا كان بولس اكتفى  بذكر جرائم “تل الزعتر وغيرها” ضدّ الشعب الفلسطيني، فإن مذبحة حماة سنة 1982، التي أباد النظام السوري فيها الألوف من السوريين، هي الأخرى جريمة ضد الإنسانية بكلّ المعايير.

بداية “التواصل” السوري، كما أخبرني أحد الأصدقاء “الموثّقين” كانت سنة 1994، بمبادرة عضو الكنيست، آنذاك، السيد عبد الوهاب دراوشة، لتقديم التعازي بوفاة باسل حافظ الأسد. بعد الزيارات التمهيدية الأولى، “احتكر” عزمي بشارة التواصل مع سورية، حتى يصعب إحصاء الزيارات التي قام بها، على رأس وفد حينا وبمفرده حينا آخر، جاعلا من التواصل مع النظام السوري نهجا ومذهبا. بل إن اصطلاح “التواصل” بالذات شاع على الألسنة هنا بفضل عزمي وحزبه وصحافة حزبه التي عملت على تغطية هذه الرحلات، باعتبارها إنجازا شخصيا وحزبيا ووطنيا على حدّ سواء. كان التواصل مع النظام في سورية، في نظر بشارة، بوابة عبر منها إلى البلاد العربية؛ لبنان بوجه خاصّ، وإلى وسائل الاتصال والرأي العام العربي، بحيث كان أنصار التجمع، في إحدى المعارك الانتخابية هنا، ينتظرون إطلالته عليهم من تلفزيون “المستقبل” في لبنان بالذات! التواصل المذكور كان مع النظام السوري وأبواقه في سورية، ومع أتباعه في لبنان، دونما صلة بالشعب السوري أو مجتمعه المدني من قريب أو بعيد. ذلك أيضا ما دعا بشارة، اعترافا بفضل الأسد طبعا، إلى تقليده أمارة سيف الدولة الحمداني وأمجاد حروبه مع الروم، متّخذا من المتنبي له قناعا:

كلّما  رحّبتْ  بنا  الروضُ  قلنا       حلبٌ  قصدنا  وأنتَ السبيلُ

والمسمّونَ      بالأميرِ    كثيرٌ       والأميرُ  الذي  بها المأمولُ

أنت  طول  الحياة  للروم  غازٍ       فمتى الوعدُ أن يكون القفولُ

وسوى الروم خلف ظهرك روم       فعلى   أيّ   جانبيكَ   تميلُ؟

الغريب أنّ “التواصل” المذكور مع النظام السوري يومها لم يكد يتعرّض للنقد، إمّا لأن كثيرين كانوا منخدعين فعلا بالخطاب “القومي” البعثي، أو خوفا من تعرّض   المندّد بهذه الزيارات إلى الهجاء الشخصي والتخوين. مع ذلك، لا بدّ لي أن أذكر  صوتا شجاعا واحدا ارتفع في حينه مندّدا بالتواصل مع نظام القمع البعثي، فكان الردّ عليه مزدوجا: استكتبوا أحد “القطاريز” مقالة في شتم صاحب الصوت المذكور شخصيا، وكتب عزمي بشارة مقالا “فكريا” في “فصل المقال” زاعما  فيه أنّ الظروف في البلاد العربية غير مواتية، في المرحلة الراهنة، لقيام نظام ديمقراطيّ! في هذه الأيام، يندّد عزمي بشارة بنظام البعث القمعي، في “حديث الثورة” من قناة الجزيرة في قطر، وهو موقف يُحمد عليه ويُحسب له، مهما كانت الدوافع والغايات. إلا أنّ مواقفه الجديدة هذه لا يمكنها محو التواصل الحميم السابق بينه وبين النظام الأسدي الدكتاتوري وصنائعه، في سورية وغير سورية.

نصل أخيرا إلى مسألة هامّة، من تداعيات الزيارة الليبية، والتواصل بوجه عامّ، يمكننا تسميتها “عقدة اليتم”. رشحتْ هذه “العقدة” من أقوال كثيرين، سواء من شارك منهم في زيارة القذافي أو الذين انتقدوها؛ بل إنها تتردّد أيضا في سياقات أخرى كثيرة تتّصل بأوضاع العرب الفلسطينيين في إسرائيل. يقول محمد زيدان، في خطابه الذي ألقاه بين يدي القذافي: “تعرّضنا لظلم ذوي القربى فرمي الباقون في وطنهم بتهم غاشمة ظالمة وأخذ عليهم بما ليس فيهم، ونظر لهم نظرات الريبة والشكّ وكأنهم باعوا رؤوسهم وفرطوا بانتمائهم ودينهم [...] فشبّ من تركوا أيتاما على موائد لئام” ( موقع بانيت، 26/ 4/ 2010). يمكن القول إنّ الأقلية العربية في إسرائيل، حتى أواسط الستينات من القرن الماضي، كانوا كما وصفهم السيد زيدان فعلا: أقلية هامشية ضئيلة، تعاني الاضطهاد والانكسارية تحت حكم الآخر، وتجاهل “ذوي القربى” في البلاد العربية أيضًا. صحيح أيضًا أننا ما زلنا، حتى في هذه الأيام، “على مأدبة لئام”، لكنّ اليتيم المذكور، وقد كبر كمّا ونوعا، لم يعدْ يعاني، أو يجب ألا يعاني بعد من عقدة اليتم. حتى يتيم الأبوين يكبر ويشقّ طريقه في الحياة، فيتخلّص أو يجب أن يتخلّص، من عقدة اليتم. ما من سبب واقعي يجعلنا اليوم نعاني هذه العقدة، سواء إزاء النظام في إسرائيل أو الأنظمة العربية: كنا مئة وخمسين ألفا فصرنا حوالي مليون وربع؛ كنا قرويين لا يتعدّى من يجيدون القراءة والكتابة منهم في القرية أصابع اليد، واليوم تجد حولك كيفما التفتّ أعدادا غفيرة من الأكاديميين والمثقفين ورجال الأعمال والطلاب والعمال المهنيين. نحن اليوم قادرون على “تقليع شوكنا بأيدينا”، بما في ذلك طبعا النضال الواعي الدائب ضدّ سياسة إسرائيل العنصرية المتواصلة. لم نعد “أيتاما” إذا عرفنا قدراتنا، وعرفنا من نحن، ماذا نريد، وما هي الطرق السليمة لتحقيق غاياتا. من الأيتام من يحمل عقدة اليتم في حلّه وترحاله، فيقضي العمر كلّه شكّاء بكّاء مهزوزا؛ ومن الأيتام أيضا من يشقّ طريقه مرفوع الرأس، واثقا بنفسه، لا يلتفت إلى ندوب الماضي إلا ليستمدّ منها عزما وثقة وثباتا، ومن هذا النوع الثاني يجب علينا أن نكون!

نجحنا هنا في وطننا في معركة البقاء والنماء والتطوّر، دونما دعم من “الإخوة” العرب ماديّ أو معنوي، بل إن أحدا منهم لم يطرح يوما مصيرنا في مفاوضات أو مشاورات أو تصوّرات. جدير بنا إذًا أن ننظر في أوضاعنا هنا، وتطلّعاتنا هنا، فنشتقّ منها نهجنا وسياستنا وسبل تحقيقها، دونما “عقدة يتم”، أو تواكل، أو تبعيّة، أو غيبيّات!

نخلص إلى القول إنّ التواصل، في آخر الأمر، مقبول بل ضروريّ، لكن مع الشّعوب العربية في نضالها العسير على طريق الاستقلال والحرية والديمقراطية والعدالة الاجتماعية، لا مع الأنظمة القمعية، ودونما شعور بالدونية، أو التبعية، أو “عقدة اليتم” أيضا!

(من كتاب “أوراق ملوّنة” الصادر حديثا عن “مكتبة كل شيء” في حيفا)


المحرر(ة): علاء حليحل

شارك(ي)

2 تعقيبات

  1. ما هذا يا دكتور؟

  2. مقالة رائعة – ينقصها فقط حفنة اضافية من الصراحة. من هو الذي انتقد التواصل مع سوريا الاسد وقتها؟ هل من يعلم؟

أرسل(ي) تعقيبًا

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

يمكنك استخدام أكواد HTML والخصائص التالية: <a href="" title=""> <abbr title=""> <acronym title=""> <b> <blockquote cite=""> <cite> <code> <del datetime=""> <em> <i> <q cite=""> <strike> <strong>