الصيّاد/ زياد شاهين

تأخرتُ قليلاً يا صاحبي كي أصلك كعادتي كلّ يوم، جسدي منهكٌ وهيكلي العظميّ يخرجُ عن طاعتي، وقدماي تسيرُ إلى الوراء ولساني تشظى، ملعثمٌ يلحسُ الكلام أو يمضغه، لغتي خليطٌ من زؤان النقط وسوس الحروف وخبزي يابسٌ

الصيّاد/ زياد شاهين

"الصياد"، بيار رينوار، زيت على قماش

>

|زياد شاهين|

 .

“علّمني حكيمٌ أن الصيّادَ لحظة يشتغلُ عقلُهُ المُحاطُ

بأكثرَ من شبكة خيوطٍ وهميّة، يشتغلُ فقط في الجري

النّهم وراء صيدِهِ- ضحيّتِهِ، يَفْقِدُ حريّة عيشِهِ

ويصيرُ أسيرَ سمكةٍ تسبحُ في نهر حياة.”

(إبراهيم مالك)

 . 

زياد شاهين

أموتُ اشتياقا إليه، وعندما يدعوني في الصّباح أتركُ قلبي على طاولة الفطور، وأركضُ كي أقابلَـهُ. وأذ يدعوني في المساء، أخلعُ ملابسي وأرتدي بدلـة أنيقة تليق باللقاء المنشود، ومن قلّة الفرح التي تزدادُ وتكبرُ في شراييني، أعدو إليه كأننا سنلتقي للمرّة الأولى.

إنّـه صاحبي البحر!

لم يهرمْ كما هَرِمْتُ.

قلبي زجاجةٌ فارغةٌ تزيّنها ثقوبٌ كثيرة، ما يشبه المسامات. قلبي ساعةٌ رمليّة تنثالُ منها رمالُ عمري وتتناقصُ أيامي.

قلبُهُ شاطئٌ أنيقٌ من صخور خافقة وكثبان رمل نابضة وأصدافٌ ثملة تخاطبُ بلغة خرساء، وتروي قصصاً وحكاياتٍ للماء وللأمواج وللطيور، وتظلُّ النجومُ والبحّارة والناسُ جمهوراً محبـّاً وعاشقاً يُدمنُ الحواريات الخلابة ويستمتعُ وهو يراقبُ الفوضى المضيئة والمنتشرة.

إنّـه صاحبي البحر!

لم يكتئبْ كما اكتأبْتُ.

ألوذُ إليه في الصّباح فألفيه يضحكُ بموجاتٍ عالية تتساقطُ منها خيوطُ الشمس الذهبيّة، وفي المساء عندما أجالسُهُ، يعزفُ لي بأوتار مائيّة أخلدَ الألحان وأعذبها، فينزل القمرُ ويتركُ السماءَ ويشرع في رقصة سحريّة فوق سطح الماء، فيصفّـقُ قلبي له وتشاركني النجوم.

إنّـه صاحبي البحر.

لم يهربْ كما هربْتُ.

عقدٌ ونيف أصلُ إليه، أهربُ من عزلتي الشامخة. لم يبقَ شيءٌ هنا أو هناك، يعتزّ بي ويمنحني شهدَ الطمأنينة ويُعتـِقني من عقدة الهروب، فأجده ينتظرني في مكانه المعهود، لم يتحركْ قيد ذرّة رمل، ينتظرني على أحر من الموج، يأنسُ بي ويُجْلسني بجانبه، يجاذبني سـرَّ الحديثَ مداً وجزراً، وإذا جعْتُ يُطعمني بثماره البحريّة وانا الذي تعوّدتُ أن آكل ما لذّ وطاب من الجوز الفارغ والثمار الهوائيّة.

إنّـه صاحبي البحر.

لم يضجرْ كما ضجرتُ.

تعبتُ من الإقامة شرقاً في منجم يضجُّ بذهب الثرثرة، مللتُ الاستكشاف غرباً والتوجّس شمالاً والبحث جنوباً عن فحم الخلاص، ضجرتُ من الانتظار العالق تحت ثقب ضيّق لعلّ الأمل يطلّ برأسه الأشعث من شرفة الغيب، ويسقطُ حولي مضرّجا بالضوء، فتبصرُ ما تصبو إليه قدماي من خضرة الطريق، وأسعدُ بملك الضجر الذي خلصني من سبّابة ضجري، وأصرخُ .. أصرخُ ويتلاطمُ صراخي، وأدركُ أن البحرَ، هائجاً كان أو ساكناً لا يأبهُ لصراخي ولا يضجرُ من زبد جنوني المدويّ، فهو يستلطفني ويحبّـني ويُعانقني ويغسلُ آثارَ الفحم الذي تراكمَ فوق عالمي.

إنّـه صاحبي البحر.

لم يخفْ كما خفتُ وأخافُ.

لم يخفْ من البواخر ومن الأساطيل. لم يخفْ من الطائرات المدمّرة التسقطُ مشتعلة في أحشائه، لم يخفْ من الملوك والأباطرة والجيوش الغازية. لم يخفْ من السفّاحين والقراصنة والدجالين والحيوانات المفترسة. لم يخفْ من البارود والصيادين والمستحمّين الذين يبوّلون حضارتهم فوق شموخه. وأنا نقيضُه ولا يشبهني البحر، أخافُ من الأساطيل ومن الطائرات المدمّرة، أخافُ من الملوك والأباطرة والسفّاحين والقراصنة، والدجّالين والسماسرة ، أخافُ من البارود والصيادين والمستحمين على ضفاف حياتي يبوّلون دبقـاً خالصـاً فوق عينيْ ويبسطون قممي وشموخي كي تمرَّ حيواناتُهم المفترسة.

إنّـه صاحبي البحر.

يخاطبني.

أثـبّتُ قدميْ على صخرة جاثمة قربه، وأشرعُ قامتي في الهواء، أستلّها من غمدها وانتصبُ مثل الهرم، أتابعُ صنارتي بين الأمواج المتعاقبة، ممتحناً مهارتي في صيد المجهول والأسماك، ويخاطبني البحرُ، أسمعُهُ يُخاطبني ولا مسٌّ أصابني ولا جنٌّ أستوطن بي، يقول لي البحر” أنا الصيادُ.. أنا الصيادُ وأنت بحرٌ متجمّدٌ من الآمال والأضداد والأفكار والشهوات والأحاسيس”.

“………..”

” تجيئني عاشقاً مرغماً لا حريةٌ لك ولا خيار، تحملُ الشباكَ أو الصنانير وتختبرُ ذكاءَ أسماكي بفنون الصيد البربريّ الذي احترفتـَهُ واختبرتـَهُ فيّ”.

“………………..”

” أنا لا أملك الشباك أو الصنانير، ولا أستعمل الخطاطيف المسنونة ولا البارود في اصطيادك”.

“……………”

“هذه بقعُ الدم المنتشرة فوق صخوري والمتعلّقة بأمواجي من صناعة همجية خطاطيفك-حضارتك المسنونة وهي تلاحقُ اسماكي، أنا أرحمُ منك، أصطادُك برفقٍ ولا أجعلـُك تنزفُ، أنا صيادٌ ماهرٌ يرأفُ بطرائده”.

“…………….”

إنّـه صاحبي البحر.

الغروبُ مثل كل يوم، يكوّمُ الغيومَ حطبــاً ويُشعلُها في الأفق البعيد، فتتفرعُ ألسنة الحرائق وتشكّلُ نسيجاً رائعاً من خيوطٍ ومرايا قانيّة متوهّجة، تبدو للوهلة الأولى طيوفاً متعانقة ومشتعلة تتنزهُ ببذخ فوق سطح الماء. أحبُّ أن أصيرَك يا صاحبي ،أحبُّ أن أكونـَك حـرّاً طليقـاً لا أحد يعرقلُ سيل قوانيني وحكمتي، ولا أحد يتحكّمُ في مـدّ طبيعتي وجزرها.

مـرّ زمــنٌ سريعاً وصريعاً.

تأخرتُ قليلاً يا صاحبي كي أصلك كعادتي كلّ يوم، جسدي منهكٌ وهيكلي العظميّ يخرجُ عن طاعتي، وقدماي تسيرُ إلى الوراء ولساني تشظى، ملعثمٌ يلحسُ الكلام أو يمضغه، لغتي خليطٌ من زؤان النقط وسوس الحروف وخبزي يابسٌ لا يقبلُ ذلـَّـهُ اليتيمُ ولا طاويو البطون، وجهي.. لا وجه لي ليدلّ عليّ.

تأخرتُ قليلا يا صاحبي كي أصلك، هل تتذكرني؟

أنا أتذكر أني أتذكركُ. كابوسٌ مدججٌ. علقتُ لك صورة كبيرة على حائط غرفتي يا صاحبي البحر، بجانب صورة المرحوم جـدّي، كي أراك كلّ يوم يتعذّرُ فيه أن آتيك. وكانت الحرب واهتزت البلاد من دوي القنابل والصواريخ، واهتز حائطُ غرفتي وتمايل، وبدأت المياهُ تتسربُ من صورتك تفيضُ وتفيضُ وملأت غرفتي وكدتُ أغرقُ، وفرغتَ أنت من الماء والأمواج والأسماك والحيوانات البرية، وبدتْ صورتك قاحلة ومخيفة، وضاعتْ صورة طيّب الذكر جدّي، كدتُ أغرقُ حزناً وبكيتُ يا صاحبي، وشتمتُ الحرب.

تأخرتُ قليلا يا صاحبي لكني فرحتُ عندما شاهدتك، هل تتذكرني؟

أنا الإنسان، أجيئك كل هذه السنين كلُّ الأسماء أسمائي وكل الوجوه وجوهي، وكل الصفات صفاتي، وكل الدماء دمائي؟! لك أنت اسم واحد لا يتبدل، ووجـه واحد لا يتغير ودم واحد أزرق، لا يتماهى، نقيٌ لا يشوبه كدرٌ ولا حمأ، أنتَ.. أنتَ!

تعبتُ من وزر أسمائي يا صاحبي ووجوهي المتعددة ودمائي النازفة، وتقوّس ظهرُ عمري، أزحفُ إليك متجرداً تاركـاً كلّ أسمائي الكثيرة هناك، وبريئا من كل الشخوص المكبوسة في تابوت شخصي هنا، لن تراني كما عهدتني، لقد تقيّأتُ كلّ شخوصي ، تقيّأتُ الملك المستبدّ الذي تقمّصني وأنا أرمي بصنارتي وأنتظر، وتقيّأتُ الحاكم الظالم الذي سكنني وأنا أحاول أن أسحب الصنارة، وتقيّأتُ الشيخ الزاني الذي لازمني وأنا أداعبُ السمكة التي علقت بصنارتي، وتقيّأتُ المجرم القاتل الذي اعتمدني وأنا ألقي السمكة النازفة في صندوق بجانبي، وتقيّأتُ السماسرة والدجّالين والممثلين باسمي وأنا أضع الأسماك في الزيت الساخن، وتقيّأتُ رموز الفكر والأدب المتآمرين الذين يمتهنون العهر والكذب وأنا ألتهم الاسماك الطازجة الواحدة تلو الأخرى ، وتقيّأتُ كلّ ما في داخلي من طهي قد تعفّن ومن شرابٍ قد تلف وأتلفني. لقد فرغتُ من شخوصي وحياتي كلها وجئتُ أرفع قامتي في الفضاء أحييك وأودعك يا صاحبي، واحشائي خالية ونظيفة.

أنت قاربُ ملاذي وشراعُ حريتي.

الغروبُ ما زال يقيم الحرائق، والهواء عليل بارد، والهدوء يعزف على كمنجة الأمواج مـدّاً وجزراً مقدمة الوداع.

سأتكئُ على بعض النجوم التي نزلتْ من السّماء لتودّعني. سألقي عليك نظرة دامعة أخيرة يا صاحبي البحر قبل أن أعود إلى المطبخ في بيتي، الحربُ ما زالت مشتعلة هنا، وقلبي هناك ساعة رملية معلقة على جدار يتصدّعُ، تبدلت الأمكنة، سأغيّر وضعية الساعة الرملية حيث سأقلبها، سأقلبها عقباً على رأس، وسيسقطُ منها رملُ عمري بارتياح وتنثالُ بداية جديدة.. سأبدأ رحلة أخرى وسأنطلق من ضجة فرحي قادماً إليك يا صاحبي، قادماً إليك.

المحرر(ة): علاء حليحل

شارك(ي)

أرسل(ي) تعقيبًا

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

يمكنك استخدام أكواد HTML والخصائص التالية: <a href="" title=""> <abbr title=""> <acronym title=""> <b> <blockquote cite=""> <cite> <code> <del datetime=""> <em> <i> <q cite=""> <strike> <strong>