إعادة ترتيب الكتب ومؤلفيها على الرفوف/يوسف بزي

|يوسف بزي| كان عليّ أن أسحب كل هذه الكتب من عشرات الصنا […]

إعادة ترتيب الكتب ومؤلفيها على الرفوف/يوسف بزي

|يوسف بزي|


يوسف بزي

يوسف بزي

كان عليّ أن أسحب كل هذه الكتب من عشرات الصناديق الكرتونية، وأعيد ترتيبها وصفّها على أرفف المكتبة الخشبية الضخمة. كتب قضيت أكثر من 25 سنة في اقتنائها نسخة نسخة. مئات الكتب انتقيتها للاحتفاظ بها من دون مئات أخرى، إما تخلصت منها فور وصولها إليّ، وإما خسرتها سرقة وتلفاً وضياعاً. كتب قرأتها مرة واحدة أو لم أفتح صفحتها الأولى بعد أو لم أكمل مطالعتها حتى النهاية أو قرأتها لأكثر من مرة واحدة، بل وكتب نسيت إن كنت قرأتها أم لا. كتب تحمل تواقيع إهداء من مؤلفيها وكتب سرقتها من أصحابها وكتب اشتريتها مستعملة، وكتب وصلتني من دور النشر مجاناً، وكتب دفعتُ ثمنها بحبور وأنا أختارها من أجنحة معارض الكتب.

هذه هي المرة التاسعة منذ العام 1991 التي أضطر فيها لتوضيب مكتبتي لأنتقل إلى بيت جديد، حيث عليّ أن أعيد توزيعها كتاباً كتاباً على الأرفف الكثيرة والعميقة التي تتسع لصفيْن من الكتب في داخلها. ويحدث أن أنظّمها باستمرار وفق موضوعاتها، فدوماً أضع كتب الشعر العربي سوية متضامنة متخاصرة، وعلى حدة أضع كتب الشعر المترجم عن اللغات الأجنبية. هذا التقسيم نفسه أتبعه مع الروايات، إذ يتراءى لي أنه لا يجوز الخلط بين الروايات المصرية والروايات اليابانية مثلاً، مثلما لا يجوز أن أضع سرفانتس وكونديرا مع محمد مهدي الجواهري، فذلك سيلخبط طريقة تفكيري بالأدب، وسأبدو للناظر إلى مكتبتي أني فوضوي أو غير قادر نقدياً على التمييز بين أنواع القراءات.

لكن حين تكون الكتب في الكرتونة تحدث مجاورات مدهشة فيما بينها، كأن أجد “رجوع الشيخ إلى صباه” مع كتاب عن الغزالي، أو رواية “الجريمة والعقاب” لدوستويفسكي مع “أيام القتل العادي” لوضاح شرارة، أو كتاب نيتشه “ما وراء الخير والشرّ” وتحته كتاب عن صدام حسين. وأجمل تلك المصادفات وقوع كتاب لمحمود درويش فوق رواية عاموس عوز. وفي هذه المجاورات واللقاءات أنتبه إلى أن قراءاتنا “المنهجية” قد تكون خطأً فادحًا، وأنّ الكتب تستطيع أن تقترح علينا ما لا نهاية له من منهجيات القراءة والقرابة بين أنواع الكتابة والأفكار. وربما يجب ترك الكتب هكذا تختار بعضها البعض، أن تختلط كما الناس على أرصفة المدن في “فوضى” لا تشبه إلا الحياة نفسها، وتتعارك على الصّدارة والاصطفاف، متنازعة ومتصالحة كما في العيش نفسه.

مكتبتي العميقة السّميكة تستوعب في كلّ رف صفاً داخلياً وصفاً خارجياً، وإذ أضطر كل بضع سنوات إلى إعادة ترتيبها مع كل تبديل في السكن، أكتشف في كل مرة أنني غيّرت كثيراً في تلك التي أختارها بارزة وتلك التي ستقبع في الخلف غير مرئية. يحدث الاختلاف هذا في كل مواضع وخانات المكتبة، تلك الرفوف السياسية، وتلك الرفوف المختصة بشؤون الإسلام والتراث وهذه المخصصة للمؤلفات الفلسفية والأفكار والعلوم الإجتماعية والتاريخ، إلخ. ذلك أنّ بعض الكتب تصيبه الشيخوخة المُبكرة، أو يُصاب بمرض الشلل الفكري، أو يصير باطل المحتوى، وبعضها يكون موضة رائجة ويصبح فجأة بائخاً وعتيق الطراز، وأخطرها تلك الموميائية التي لا تتحلل رغم موتها، وأسوأها تلك الرديئة التي لها رغم ذلك سطوة وجدانية وثقافية تردعنا عن رميها. لكن على الأغلب ثمة الكثير منها يصير ضحية ضيق المكان فأضطر إلى وضعه في الخلف بكثير من التردّد والحسرة. القليل منها فقط ما وضعته في الخلف بسرور لا لأنه ضعيف القيمة بل لأني بتُّ أمقت مؤلفه مثلاً، فيذهب الكتاب متقهقراً ضحية تعسّف الأهواء الشخصية.

ثم إنني في كل مرة أعاود اختراع تقسيم جديد من مثل ذاك الرف المستحدث منذ العام 2005 والمخصّص للبنان فقط، إذ ما عدت أطيق وضع الكتب التي تتناول لبنان مع تلك التي تتناول بلداناً عربية أخرى. ما عدت أحتمل كتاباً عن لبنان بجوار كتاب عن أزمة الشرق الأوسط. أعرف أنّ هذا ليس ترتيباً منطقياً، إنه “مزاج” سياسي فحسب.

على هذا المنوال أشعر بأنّ علاقتي بالكتب تخضع للتبدّل والتحوّل، علاقة حبّ وكراهية، إنجذاب ونفور، وتقلبات عاطفية ودهشات فكرية وذاكرة مخادعة، مثلما يحدث إذ نسمع أغنية فتنبثق ذكرى قديمة كحلم يقظة. فها إني أمسك مجلدات “الدون الهادئ” فتندلع في رأسي الرياح الجليدية وجحافل الفرسان القوزاق والسهوب الروسية. ها هو “جاروميل” شاعر كونديرا بجوار حبيبته حمراء اللون، الذي جعلني أخجل من صفة “الشاعر”. هذا كتاب ميشال شيحا الذي قرأته مطلع التسعينات مستهدياً إلى وعي جديد سيلازمني حتى اليوم، متذكراً معه قراءاتي لأحمد بيضون وسمير قصير والخطاب الشهير للأب سليم عبو.

ها أني أجمع مجموعات بسّام حجار الشعرية، متذكراً خط يده المرتعش، جلسته اليومية قبالتي في المكتب، ضحكته الصريحة التي لا يعرفها سوى المقربين، ثم أني أضع معها كل “رواياته” الفرنسية واليابانية، فلا أعود أعرف إن كانت كتب بيسوا من تأليفه أم أنّ بسام حجار اخترعها لنا، أو أن رهافة كاواباتا هي من صنعه أم هي في ترجمة بسام فقط؟ ثم هذا الشاعر المتوحش محمد الماغوط الذي أحرص كل مرة على وضع مجلده القديم (منشورات دار العودة) وحده بارزاً فوق كل كتب الشعراء الذين من جيله، كإعلان لا لبس فيه عن انحيازي له دون الآخرين.

بالحرص نفسه أجمع كل مجموعات سركون بولص وعباس بيضون سوية كتوأم شعري لا أحد يتبين توأمتهما سواي، كذلك ريتسوس وكفافي اليونانيين. وأنتبه إلى كل الكتيبات الشعرية التي ترجمها سعدي يوسف، وأحتار هل محبتي لهذا الشاعر العراقي اللندني متأتية من شعره أم من شخصيته الجذابة الملهمة أم من اختياراته في الترجمة الشعرية؟ الكتب لها خاصية اجتماعية، أقول وأنا أرتب دواوين محمود درويش، متقصّدًا وضعها هذه المرة بجوار كتب شعراء موتى سبقوه (نزار قباني، صلاح عبد الصبور، عبد الوهاب البياتي، بدر شاكر السياب).

في كل مرة أتعجب من كتب موجودة من غير درايتي بها، مجهولة أو منسية، أو أتت بطريقة غامضة وصمدت إزاء كلّ “جردة” تصفية. كتب تعيش في عزلة وكتب أغمرها بالودّ، وأخرى أودّ أن يرثها مني ابني، الذي أهديته أمس “العجوز الذي كان يقرأ الروايات الغرامية”.

طوال 25 سنة ظننت أني أختار كتباً وأشتريها، غير منتبه أنها هي التي اختارتني، وظننت أني كوّنتها لكنها هي التي كوّنتني، وظننت أنّ المكتبة بكتبها هي لمؤلفيها، لكنها بالأحرى هي من تأليفي وهي في الوقت نفسه التي صنعتني.

(عن “المستقبل”)


المحرر(ة): علاء حليحل

شارك(ي)

أرسل(ي) تعقيبًا

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

يمكنك استخدام أكواد HTML والخصائص التالية: <a href="" title=""> <abbr title=""> <acronym title=""> <b> <blockquote cite=""> <cite> <code> <del datetime=""> <em> <i> <q cite=""> <strike> <strong>