“القرار”- قصة قصيرة لمحمد خير

|محمد خير| خاص بـ “قديتا.نت” … إزداد […]

“القرار”- قصة قصيرة لمحمد خير

google-tv-ads

|محمد خير|

خاص بـ “قديتا.نت”

إزداد نجاح معظم أصدقائي ومعارفي دونًا عني فبدأتُ أعاني غيرة مروعة، تقبلتها في البداية كشعور صحيّ يدفعني للمنافسة ولكنه ما لبث أن انقلب إلى غضب أخذ ينهشني من الداخل فحرمني النوم والأكل وحتى متعة الجلوس إلى أحبائي. تحوّل كلّ لقاء وكلّ نشاط أقوم به إلى رحلة داخلية لتقريع النفس أو استرجاع الكراهية، وتفكرت في حالي فوجدت أنّ لا أمل في الخروج من دوامة الوظيفة الحقيرة التي أشغلها ولا احتمال لتحقيق ربح مفاجئ أو مجد ما، وتهت في أفكاري أيامًا وليالي سوداء حتى قفز الحلّ أمامي في ليلة حارة، صحوت فيها من غفوة مفاجئة على أريكة الصالة وكان التلفزيون مفتوحًا أمامي من دون صوت.

تناولت نظارتي فوجدت أحد أصدقائي القدامي يتحدّث للجمهور عبر برنامجه الشهير. رفعت الصوت فعادت أعراض البغض تنمو فخفضته مجددًا ونهضت من مكاني وأخذت أدور في الصالة التي ضاقت جدرانها  بهواجسي، وفي مشيي اصطدمت عفوًا بسلك التلفزيون فانخلع من القابس الأرضي. إنحنيت كي أعيده ثم تجمّدت يدي لحظة ونهضت من دون أن أعيد الفيشة مكانها؛ تركت التلفزيون مطفئًا وجلست واضعًا مرفقيّ فوق فخذي وقد أحنيت رأسي محدقًا في الأرض كأني أنتظر شيئًا. هدأتُ بعد دقائق، وقررت أنّ لا حاجة لي بجهاز يعرض عليّ ليلَ نهارَ إنجازات الأصدقاء القدامى: فهذا يقدم برنامجًا وذاك ضيف دائم في البرامج وتلك لا يخلو تقرير من خبر عنها أو حديث. وازداد حماسي للقرار فقمت وأدرت الجهاز بحيث أصبحت شاشته للحائط. أصبح المنظر قبيحا فحملت الجهاز بجهد وأودعته خزانة ملابسي شبه الفارغة، جذبت طاولة التلفاز ورأيت أنها تصلح تمامًا لإسناد قدميّ فوقها لولا أنه لم يعد هناك ما أشاهده بينما أريح قدميّ، فجلبت بضع أنتيكات قديمة متناثرة في الشقة وضعتها فوق الطاولة وأرجعتها مكانها.

وفي العمل بدأت أفقد صلتي بالعالم الذي يحكي عنه الزملاء، وبعد أيام بدا لي حديثهم عن برامج التوك شو ومباريات كرة القدم مجرد حديث لا يعني شيئًا واقعيًا. وتحمّست أكثر فتوقفت عن شراء الجرائد أيضًا، حتى بدأت أواجه مواقف محرجة عندما أبدو جاهلا تمامًا بحدث هامّ أو خطير، وتصادف أن بيعت الشركة إلى مالك جديد وكالعادة بدأت أحلام زملائي تنمو وتتحدث عن زيادات مالية، بينما تحدّث آخرون عن تصفيات مرتقبة لموظفين فسادت الأجواء حالة مرتبكة ومتناقضة. وعلى الرغم من ذلك لم يهتزّ الهدوء الذي بدأ يسم شخصيتي حتى بدأ الزملاء بنسيان شخصي القديم العصبيّ، بينما افترض آخرون أنّ تحسنًا ما طرأ على أحوالي دون أن أفصح عنه. وبين هذا وذاك لاحظتُ أنّ اليوم بلا تلفاز أو صحف أصبح أطول بكثير، وأنني وقد أصبحت هادئًا لا تنغصني أخبار النجاحات بدأت أطرق مناطق جديدة داخل نفسي، وبدأت أتأمل في المشاهد والوجوه والكلمات، وقرّرت أن أقرأ في الصوفية والفلسفة ولكنني سرعان ما أُرهقت وارتبكت فتركتهما، ثم بدأت ألاحظ أنني أجد  أفكارًا رائعة وحلولا مدهشة للمشكلات المعقدة فتبدو أمامي واضحة جلية بعدما صرت أقضي معظم يومي في تفكير بلا ضغوط.

ولوحظ ذلك في الشركة إذ أصبحت أقترح حلولا ذكية وغير تقليدية لمشكلات عانتها الإدارة طويلا فبدأت أحظى بمعاملة جديدة واحترام لم أحظ به قبلا، وذكرني النجاح الطارئ بنجاحات الأصدقاء القدامى فاضطربت مجددًا وخفت من العودة إلى الدوامة السوداء فبذلت جهدا كي أركز في عملي فقط. وفي البيت بدت لي الشقة أكثر رحابة وأصبحت أقضي وقتًا أطول في الاعتناء بتفاصيل الأثاث والأدوات المنزلية، اشتريت زرعًا بسيطا لأول مرة ولم أكن أعلم شيئًا كثيرًا عن العناية به وكذلك كان زملائي فخفت أن تجبرني رغبة التعلم على العودة  للقراءة أو التلفزيون فجربت كثيرًا واستبدلت الأزهار والنباتات الصغيرة مرارًا حتى تعلمت العناية بها عن طريق التجربة والخطأ. ومع الوقت انقطعت علاقتي بمعظم من كنت أعرفهم وأدركت أنني أحبّ الكلام مع بواب البناية وبدأت أحبّ الدردشة مع سائقي التاكسي والباعة وحتى الأغراب العاديين في أماكن الانتظار، واكتشفت أنّ الابتسامة نصف الكلام، وأنّ حتى الشحاذين والأميين وعساكر المرور لديهم أفكار مميزة، وتحسنت صحتي وطاب نومي وإن ظللت أحلم أحيانًا بشذرات من أيامي القديمة فأقوم مفزوعا متلفتًا حول نفسي فتذكرني النباتات بأنني في حياتي الجديدة فأطمئن وأعود للنوم.

وكدت أنسى أسماء الكثير ممن كنت أعرف وسقطت مني ذكريات وأحداث لم أكن أظن أن تغيب عن بالي يومًا، وتعجبت كيف تغيرت مشاعري وانطباعاتي وأذواقي بل واعتدت ذلك كله كأنني كنت كذلك طوال عمري، واستدعوني يومًا لمكتب المدير وكان بجواره رئيس شؤون العاملين ومحامي القسم الذي أعمل فيه. دخلت فطلبوا مني أن أجلس ورأيتهم  يتأملونني مبتسمين، وخرجت بعد دقائق وأنا أفكر ترى هل ثمة رابط بين ما نفعله وما تأتي لنا به الحياة؟ وكانت في الممر مرآة صغيرة فوقفت أتأمل نفسي مبتسمًا وقلت ربما كان كل ما سبق تمهيدًا لما سوف يأتي.

(من مجموعة قيد النشر بعنوان “رمش العين”)

المحرر(ة): علاء حليحل

شارك(ي)

2 تعقيبات

  1. النهاية ملعوبة حلو قوى يا خير
    يسلم قلمك ، مشتاق أقرا المجموعة كلها لما تنزل

  2. حلوه جدا و تصدق اثرت فيا
    keep on…..

أرسل(ي) تعقيبًا

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

يمكنك استخدام أكواد HTML والخصائص التالية: <a href="" title=""> <abbr title=""> <acronym title=""> <b> <blockquote cite=""> <cite> <code> <del datetime=""> <em> <i> <q cite=""> <strike> <strong>