تجاعيد على الكفّين/ ماجد عاطف

|ماجد عاطف| |قصة قصيرة| كانت والدته تطرق الباب. الأمر غ […]

تجاعيد على الكفّين/ ماجد عاطف

|ماجد عاطف|

|قصة قصيرة|


كانت والدته تطرق الباب. الأمر غريب لأن أحداً لا يطرق بابه، ولو كان من أهل بيته، إلا إذا كان هناك أمر جلل. حين فتح الباب طالعته نظرتها وفيها شيء متحمس مريب. كأنها تعتذر أو تختبر اندفعت قائلةً:

-        تلفون إلك..

قطع علاقته بالعالم الخارجي منذ شهور. ولا يذكر من يمتلك رقم هاتفه أو يمكنه أن يتصل به لأي شأن.

-        مين؟

-        وحدة..

في عينيها ضحكة خفية يمكنها أن تفقده صوابه. تلك الانفعالات التي تخفي نفسها في الأشياء تقلقه لأنه لا يستطيع فهمها مباشرة ويحتاج إلى الوقت والموقف ليتمكن من إدراك مغزاها.

دارى نفسه وقلقه:

-        مين؟

-        ما قالت.

-        هيني جاي.

وتبعها بعد قليل نادماً على أنه لم يطلب منها استنطاق المتصلة ومعرفتها أولاً ليقرر هل يرغب في التكلم معها أم لا. لم يعد يعرف أحداً يمكنه أن يتصل به، فوق أن يكون أنثى. سيعترف مباشرة: كونها أنثى هو الذي جعله يهتم.. راجع حساباته ولم يتذكر أحداً، وعندما رفع سماعة الهاتف أتاه صوت شاب لامرأة قدّر عمرها في الثلاثين.

وبين المجاملات والاستفهام انداح الأمر كله: قرأت كتابه وحصلت على رقم هاتفه من الناشر. “ماذا تريد”، كان سؤالاً يتململ في ذهنه وهو ينتظر انتهاء المكالمة. أن يتصل أحد بناءً على قراءة كتاب، حتى لو أعجبه، أمر لا يفهمه. وكانت تريد الالتقاء به في مقهى.

شعر بوخزة في صدره. كانت ذاكرة سيئة.. التوقعات تخيفه لأنه لا يمتلك مقوماتها، وغالباً ما ترتد عليه. كان يود معرفة ما أعجبها بالضبط لكنه لم يجرؤ على الاستفسار. أو أنه –في أعماقه- كان راغباً في الالتقاء بها كأنها أمل يود الإبقاء عليه بدلاً من بتره. في عقله كان يعي أن ثلثي الكتاب اليتيم، الذي نشره كوصية من نوع ما، كان يتحدث عن المرأة..

أمر آخر أقلقه هو مكان اللقاء: كانت تريده في مقهى، حيث يخشى من التأويلات، وناور طويلاً ليجعله في دار النشر. ولم تخل حساباته أيضاً، هو المفلس المزمن، من التفكير في الكلفة، فهكذا لن يدفع شيئاً وسيظل اللقاء رسمياً في حالة اعتبرت هي الكتاب رسالةً شخصية من نوع ما.

وبينما كان ينهي المكالمة وقع بصره على والدته العجوز التي كانت تصغي فوق الأريكة القريبة. رأى بوضوح فرحة ماكرة، كأن “الأزمة” انتهت وها هو “يخرج” من البيت مجدداً!

كان الألم يعتصر قلبه بشدة. لقد ذكّرته بما أراد نسيانه..

ما الذي كان يتوقعه بدوره؟؟

لا فائدة من القول أنه لم يكن مهتماً باللقاء وأنه كان “مخلصاً” لمن شغلت باله ولا يريد استبدالها أو لا يجد الاستبدال ممكناً. بالعكس ظل طوال الأيام الخمسة المتبقية يغرق ويطفو في حالة ما، ما بين التذكر والنسيان. تتوهج مخيلته بحافز يجعل العالم جميلاً معقولا مرةً أخرى..

أيمكن للمرأة، فكرة المرأة أو وهجها، أن يفعلا هذا؟


ومضى إلى موعده يود لو يحدث شيء فيعيقه. بقدر ما كانت المرأة حافزاً لديه، كانت مصدر تعاسة.. هي سلسلة إذا انكسرت الحلقة الأولى تكسّرت بقية الحلقات. والذي فعله، في الكتاب، هو أنه أقر بذنوبه كلها، ما استطاع، وحاول النسيان والكف عما كان عليه.. كانت هناك البراءة وكانت الانتهازية وكان الإدمان وكانت الخيانة وكان الفقدان وكان وكان.. ولم يعد يجرؤ على التكلم مع أنثى غريبة خوفاً من الوقوع في المحظور ويتورط -رغم شدة حاجته للتورط- في نطاق جاذبية.. كان كمن أقلع عن التدخين: سيجارة واحدة ستجرّه مجدداً..

فوجد أن ما يمتنع عنه المرء أشد أسراً مما قد يقع فيه!

وهكذا أتت فاتنته الأخيرة على كل شيء عنده، لأنهما لم يلتقيا وأساء لها من حيث قصد العكس. لقد فقد صوابه كلياً!

لكن ليقل الحقيقة: مثله لا وفاء له حتى لو أراد! فها هو ماضٍ إلى لقاء وفي صدره جذوة لا تخبو مستعدة للاستبدال، لمحض أن هناك من رغبت في الالتقاء به، ويعلم الله وحده أسبابها.


وانتظر على مكتب الناشر قليلاً.

كان الناشر يعلم أنها آتية لأنها على ما يبدو أخبرته، ولا يدري أي أحاديث تبادلاها عنه.. أو ربما كان متحسساً ببساطة من أفكار الآخرين عنه لأنه يغلي كالمرجل بالمشاعر الخفية. ربما يلتقي الناس، ومن الجنسين، دون أن يعطوا وزناً للأمر. أما هو فنادراً ما لم تواته فكرة ما، حتى عندما كان يتعامل مع الكثيرات. ربما هو الكبت، وربما هي الطبيعة، لكنه في الحقيقة عاجز عن الاختلاط، لهذا فأفضل حل له كان الاجتناب.

وسمع صوت قدميها البطيئتين يقترب من المكتب. ويُدق الباب قبل أن ينفتح على مصراعه. كان صوتها على الهاتف خادعاً لأن مظهرها لم يكن يقل عن الخمسين، بامتلاء في الجسد وشعر أسود مسترسل على وجه مستدير. وكانت تحمل سلة صغيره فيها بعض الكعك المنزلي الذي قدمته لهما وتناولاه بريبه تتطاير في الجو. هدأت الجذوة التي في صدره وتراجعت توقعاته. ولكنْ أدهشه أنه لم يعف “الفكرة” تماماً رغم أن في ذاكرته الممتلئة تجربة مماثلة.. كان أشبه بالنسور التي تقتات على أي شيء- حيًا أو ميتًا.

ولم تصدمه طوال نصف ساعة أي معلومة سمعها منها. أن تكون زوّجت ابنتها -التي لا يكبرها إلا ببضع سنوات- منذ شهور. أن تكون قبل ذلك متزوجة.. أن يكون ما جذبها في الكتاب، وهو ما لم تقله بصراحة، عبث المرأة الذي حاول وقف تدحرجه.

ودون عناء أدرك أنها زوجة تقدمت في العمر تعاني الإهمال والملل، ولديها من الجرأة والوقت ما قد يدفعها لبعض الإثارة.

كان يتألم وهو يجيب على أسئلتها ويتجنب ما يؤدي إلى لقاءات أخرى محتملة. حين انسحب الناشر من المكتب عرضت عليه، مقلصةً من اتساع عينيها، مع إيماءة في الصوت، “أن تساعده على التخلص من مشاكله”.. في الحقيقة كانت تبحث عن حل لمشكلتها هي.. لا يخفى المغزى عليه ولكن عينيه تتأملان البقعتين المتجعدتين على كفّيها واللتين انتشر فيهما النمش.. ويتظاهر أنه لم يفهم.

وسيحتار طويلا: هل عزف عنها لأنها ذكّرته بتجربة سيئة أم لأنها ليست شابة.. أم لأنه لم يعد كما كان؟


المحرر(ة): علاء حليحل

شارك(ي)

أرسل(ي) تعقيبًا

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

يمكنك استخدام أكواد HTML والخصائص التالية: <a href="" title=""> <abbr title=""> <acronym title=""> <b> <blockquote cite=""> <cite> <code> <del datetime=""> <em> <i> <q cite=""> <strike> <strong>