تخمينات شعيب حليفي المهملة

|خدمة إخبارية| صدرت في هذه الأيام رواية جديدة للكاتب شع […]

تخمينات شعيب حليفي المهملة


غلاف رواية "أنا أيضًا.. تخمينات مهملة"

غلاف رواية "أنا أيضًا.. تخمينات مهملة"


|خدمة إخبارية|

صدرت في هذه الأيام رواية جديدة للكاتب شعيب حليفي بعنوان “أنا أيضا.. تخمينات مهملة، في بيروت عن الدار العربية للعلوم ناشرون- الطبعة الأولى، وهي الرواية الخامسة بعد نصوص: مساء الشوق، زمن الشاوية، رائحة الجنة، مجازفات البيزنطي، لا أحد يستطيع القفز فوق ظله .

جاءت رواية “أنا أيضا.. تخمينات مهملة” في شكل قطعة موسيقية مؤلفة من ثلاث روايات: ارتياب المطمئن، هتاف البهاليل، آثار العتمة، وكلها نص واحد صاغه الكاتب من أرشيف مسودات واختلاقات وسقْط الواقع، يحكي عن حيوات شخصيات حفرت هويتها في التراب والهواء داخل فضاء يقول عنه المؤلف: “في بداية الشارع الذي يسمى حينا النصر وحينا آخر المعتمد بن عباد، وأعطيته اسم شارع الشيخ الهبطي، ما دامت الدولة المغربية ترفض أن تسمي أبطالنا وتكتفي بأبطالها وأبطال العالم، فلا ضير أن يكون لي نفس المنطق، وأنا الواحد الاوحد في عالم الرواية. ثم فكرت لاحقا في تسميته بشارع الملائكة.”

أما شخصيات الرواية فيحاورها  الراوي الذي يُقلب باستمرار في أوراق قديمة غير مكتملة، يرممها ويضيف إليها لحكي حكاية واحدة بصوتيْ سمير الزعفراني وبشير السياف، وعنهما ستتفرع الأصوات الحقيقية للرواية،شخصيات ذات أطوار وبرامج يفركها اليومي بما يحمل من أثقال الزمن المغربي.


مقطع من الفصل الثاني من الرواية

مسودة أخرى :

مخطط آخر عثرت عليه من جزأين، الأول من أربع صفحات مؤرخ بتاريخ 6 و 7 ماي 1994، أما الثاني فهو من صفحتين ومؤرخ بتاريخ 9 ماي 1994.

يتضمن الأول وصفا عاما للرواية وهي من عشرة فصول، تغير فيها اسم سمير الزعفراني، إلى اسم عبد الله بلمدني، وكذلك اسم فاطمة جسري إلى اسم ربيعة فيما بقيت التفاصيل والأسماء الأخرى، وأضيفت إليها شخصيات يبدو أنها أساسية مثل اشعيبة الراي الذي كان يجلس معهم بالمقهى ولم يسمع أحد منه طيلة عقود أية كلمة، فهو يجلس ليحسو الشاي ويدخن الكيف.

شخصية أخرى تقطن في العمارة التي يوجد بها بشير السياف وهي نعيمة أستاذة الرياضة البدنية وستكون لها حياة وجدانية صامتة مع بشير ثم مع سمير.

في الورقتين الأخيرتين (مخطط 9 ماي) ويتضمن إلى جانب الكتابة رسما جانبيا للشارع والحوانيت والأزقة المتفرعة،ثم رسم لمقهى موسى بعدد الطاولات والكونطوار.

أما الكتابة ففيها تدوين مفصل لجلسات المقهى، والحوارات الدائمة التي يجريها سمير وبشير يوميا إلى منتصف الليل.

والغريب في أمر المسودتين الأخيرتين أنهما تحيلان على أزمة سيقع فيها سمير، وسيدخل السجن، دون أن أجد معلومات أو تفاصيل عن ذلك، ولكن الإحالة إلى اشْعَيْبَا الرَّايْ قادتني إلى  ملف،في مغلف، به عدد من قصاصات قديمة من جريدة المحرر، وصور لا أعرف مصدرها ثم عدد كبير من الأوراق المكتوبة والمذيلة بتاريخين: 21 يوليوز 1987 و 4 نونبر 1987 وتتضمن معلومات شحيحة عن بشير وسمير مقابل معلومات كثيرة عن شخصية اشْعيبا الرَّايْ. وأما عنوان الرواية كان هو (هتاف البهاليل)عامرة بشخصيات كثيرة بدت معها شخصيتا سمير وبشير ثانويتين لا سيما أمام حمو الشواف الذي كانت له قدرات خارقة في الاطلاع على غيوب وأقدار يلتقطها بحدوسه النفاثة المغلفة بحيل وبديهة، يجلس كثيرا في الفندق إلى جانب رواده من باعة الملابس القديمة والثوم والسباسا وغيرهم.

الدكتور ضريسة أو دينوا الذي كان يستقطب زبناءه من رأس شارع الملائكة، ثم يقودهم إلى الساحة الداخلية للفندق ..يجلسهم على الأرض ويفتح فم الضحية وهو خلفه، واقفا بكلابه يبحث عن الشدة الكبرى لينزع بكلابه التاريخي ما التقط، سواء كان الضرس المريض أم غيره.

والمثير في حياة الدكتور أنه نزع كل أسنانه وأضراسه بكُلاَّبه لإعطاء المثال على صناعته. والعجيب أيضا  انه كل يوم،بعد  ذهابه قبيل غروب الشمس، كان يصلي صلاته الوحيدة في كل اليوم، في منطقة تسمى لكنانط حيث يتم صفد الجمال، صلاة لم يستطع حتى هو أن يجد لها تبريرا –كيفما كان –حينما  شطب على  كافة الأوقات واحتفظ بصلاة المغرب.

والشيء الآخر في حياته أنه كان يبيع ربطات الكيف ليلا، وتحول في لحظات أخرى إلى بيع الخمور المعبأة في قناني بلاستيكية، لكونها تدر عليه أرباحا أهم من الكيف

فلسفته في الحياة أنه لما يغضب، يصرخ في الجميع زاعما أنه سيشفع فيهم جميعا،مذكرا أن الفم عورة أشد من العورة… وقد رأى عوراتهم وعالجها من الجهل.

والدكتور هو صديق حميم لجميع رواد الفندق وسكان شارع الملائكة، من حمو الشواف وميلود الحجام الذي يحلق بآلة واحدة وزبونه على كرسي في الهواء الطلق بدون مرآة أو واق، لكن الأهم لديه هو الحجامة التي له فيها آيات وأحاديث وأمثلة وحكايات لا يعرف أي أحد مصادرها الدينية.

قرقارات حديدية رهيفة في شكل بوق ضيق في البداية وواسع في نهايته، صمم في شكله الذي هو عليه للغاية  المعلومة .فما ان  يوضع في أول الرقبة وآخر الرأس من جهة القفا، بعد حلق المكان وجرحه بشرطتين، تتيحان خروج الدم، حتى يبدأ ميلود في المص بتؤدة ثم يترك القرقارات وقد التصقت والدم ينزل في خزان جزئي من تلك الآلة العجيبة، وفي كل مرة يعود إلى المص وكلما أحس بامتلاء القرقارة أخذها فأفرغها..ثم بسرعة يعيدها إلى موضعها بالقفا.

عملية يلجأ إليها رجال فوق الخمسين للتخفيف من الدم الخاسر، ويطلبها اشعيبة الراي كل يوم أحد، مجانا، باعتبار ماضيه. ويفعلها العيساوي أيضا حينما يحس بغشاوة على عينيه.


الحكماء الخمسة :

لكل زمن حكماؤه، وحكماء الفندق في شارع الملائكة خمسة، أولهم الدكتور ضريسة الذي لا يجد فرصة يصمت فيها، فهو يملأ كل ساعات النهار بالثرثرة سواء وهو قرب الشريف مول السباسا في رأس الشارع أو بالفندق أو بمقهى موسى، أثناء الأكل والعمل، لا يسمع لأي كلام أو أي حوار آخر… ولكنه في مونولوغ طويل جدا. ولعل صلاة المغرب هي اللحظة الوحيدة في يومه التي يصمت فيها صمتا روحانيا يؤدي فيها حركات السجود والوقوف دون أن ينبس بكلمة أو يوحي بأنه يقرأ شيئا.

لكن البهلول سيكتشف أربعة أوقات أخرى في اليوم يصمت فيها الدكتور:

- في الفجر وهو يدخن شقوفا من الكيف بالتذاذ يتنفس معه طويلا وفي إغماضة عميقة.

- خلال الظهيرة حينما يتسلل عند إحدى سيدات الطرب الشعبي، قبل خمسين عاما، لآلة هنية،

وهي في عقدها السابع أو الثامن تنتظر قدومه بتحرق كبير يبدو جليا وهي أمام النافذة في الطبقة الأولى في شقتها بالطابق الثاني، تنتظر ابتداء من العاشرة صباحا، وحتى تثير انتباهه كل عشر أو خمسة عشر دقيقة تنادي بصوت مسموع على خادمتها أن تأخذ الخبز إلى الفران أو تراقب الأكل على النار…. فينظر إليها ويزداد حماسه الكلامي مخلوطا بأجوبة فاضحة لها، مضمونها أنه قادم استجابة لنداء الأنوثة والتاريخ وللبناء.

- الوقت الثالث لصمته القسري في العصر حين يذهب إلى مقهى موسى فيجد اشعيبة الراي ينظر إليه  فيبقى واقفا في صمت يحتسي زجاجة مونادا باردة، وهي عادته في هذا الوقت و في كل الفصول.

- وقت المغرب حين يؤدي صلاته الوحيدة صامتا.

- ثم وقت العشاء حين يبدأ في بيع ربطات الكيف قبل أن يتحول إلى بيع الخمور.

وقد اختار الدكتور شهر رمضان من كل سنة للاختفاء عن الأنظار والأبصار، ولا أحد يعرف أين وكيف يقضي هذا الشهر.

ثاني الحكماء امرأة اختارت أن تكون رجلا بلباس خشن، وتعمدها تدخين السجائر أمام الملأ، والتصرف كما لو أنها رجل.

الجلايدية، اسم شهرتها التي تمقتها باعتبار أنها اختارت أن تبيع وتشتري في جلود البهائم. اسمها الحقيقي فاطنة وسمت نفسها احميدة.

لعبة مفضوحة يسخر منها الصغار ويرضاها الكبار الذين يتعاملون معها رجلا لرجل، وقد خلقت مشكلة حينما غيرت الجلايدية حمام النهضة الذي كانت تستحم فيه مع نساء حي البطوار القديم باعتبار أنهن يدركن اللعبة، وذهبت يوما إلى حمام الكابران، وكانت النساء تعرفنها فهي أشهر من نيكسون أو حتى كريم العمراني والفيلالي…وبدخولها الحمام  انفجرت النساء العاريات بالصراخ والجري والاختباء وعمت الفوضى التي امتدت إلى الشارع، فقدم المخازنية وباشا المدينة واستقدموا معهم حمرية أخت اشْعَيْبَا الرَّايْ التي دخلت للتفاوض باسم المخزن.

قالت الجلايدية بأنها لن تخرج أبدا حتى تغسل وسخها، ورغم جهود حمرية فان شيئا لم يتغير حيث كانت المفاوضات تجري والجلايدية تستحم، واكتشفت حمرية، على مدار ساعة، أن النساء اللواتي افتعلن هذه الحركة يدركن أنها امرأة، وأنهن –كما وصفتهن الجلايدية- من أرذل النساء ولولا خوفهن لخرجن عاريات إلى الشارع العام.

انتهى كل شئ بانتهاء الجلايدية من غسل وسخها، وخرجت ثم جلست وأشعلت سيجارتها الكازاسبور وجيء لها بالشاي. تحلقن جميعهن حولها، يضحكن ويقبلن الجلايدية التي بدت غير مبالية بكل ما جرى… في حين بقي المخزن الممثل بالباشا والمخازنية، وعدد من المخبرين يتباحثون وقد شكلوا خلية أزمة.

وهي بالفندق، غاظها الضحك الهستيري لحمو الشواف عليها مما جعلها تقول له بكون زوجته قد خانته معها فازداد ضحكا وطلب منها أن تسمح له بأن يخون زوجته معها فتصبح خيانة زوجية من طرفين مع طرف واحد.

ملاحظة : الجلايدية شخصية حقيقية، ويشاع أنها كانت متزوجة سرا من اشعيبة الراي ولما طلقها، وكانت تحبه كثيرا، أرادت أن تنتقم بطريقتها  فتزوجت أجمل امرأة مغنية شعبية من قبائل أولاد سيدي بنداود جنوب مدينة سطات…. عاشتا معا لمدة تسع سنوات، وفي السنة العاشرة شوهدت وهي حامل فتوقفت عن الذهاب إلى الأعراس، ثم بعد فترة وجيزة قيل إن أحد النافذين من الحكومة  بالرباط اختطفها.

أما عن الجلايدية فستموت في حادثة سير وهي راجلة، بخُمِيْسَّات الشاوية سنة 1997 بعد تنصيب حكومة التناوب بسبعة أيام.

الحكيم الثالث هو العيساوي، أشهر الحكماء وأكثرهم خبرة وتجربة .ورغم أن مسودتي 21 يوليوز و4 نونبر 1987 لا تحتويان إلا على المعلومات القديمة والتي توجد تفاصيل كثيرة عنها في مدونة مجازفات البيزنطي، فإني مضطر لإيراد وثيقة قديمة ضمن ملف آخر كتبت مستقلة،وأيضا الجزء الأخير من سيرته التي بوأته هذه المكانة العظيمة حتى صار أحد الحكماء الخمسة.


أنا الرئيس

هذه الوثيقة مكتوبة بضمير المتكلم للعيساوي، وهي موزعة على ثلاثة أجزاء كلها غير مكتملة، وفي كل جزء عنوان مختلف عن الآخر: أنا الرئيس، أريد أن أكون رئيسا، دم الأنبياء، وقد اخترت العنوان الأول بدون غاية مسبقة، ولكن لكون هذا العنوان بعيدا عن جفاف العنوان الثاني بواقعيته المفرطة واستعارية الاختيار الثالث. ثم لأن هذا التركيب يحكي عن الجزء الضائع أو الغامض في سيرة العيساوي كما وردت في المدونة السابقة،باستثناء إشارة عابرة لها تقول “وفي مطلع سنة 1970 سيستقدمه الكولونيل اعبابو بعد ترقيته إلى ضابط صف بمدرسة هرمومو، ثم سيقوده في فجر يوم العاشر من يوليوز من نفس السنة، ضمن خمسة وعشرين شاحنة إلى مدينة الصخيرات في إطار إنجاز انقلاب عسكري على الملك الذي كان يحتفل بعيد ميلاده الثاني والأربعين.

فشل الانقلاب، وقبل ذلك بقليل، أحاطت بالعيساوي كل تفاصيل هزيمة الستة أيام التي شارك فيها، فانسحب. وساهمت الصدف كلها في ابتعاده ونسيان كل شيء. فاختفى في شخصية جديدة بثلاثة أسماء…”

أتلمسه بذعر، وأحس به،ثقيلا وخفيفا، ولكنه في كل حالاته المتبدلة، لصيق بروحي… ما أفظع الإحباط الذي يغلف أنفاسي،ولم تستطع سحابات الأدخنة وبخاراتها المعتقة بروائح الكيف والطابا أن تدوِّخه حتى يرفع عني أحماله ويقتلع أظافره المنغرسة في بدون رحمة.

لا أستطيع الطلوع من هوته السحيقة والمظلمة رغم شطحاتي العيساوية… فأنا في حاجة إلى صدمة أو كارثة لروحي التي لم تشف من عطش الحرب الكونية الثانية التي خرجت منها جنديا فاقدا حريتي مرتين برتبة كابران، وقبل سنوات خرجت من حرب العرب الخاسرة فاقدا لشيء لا أعرفه ولكني أحسه، والفراغ الشاسع الذي تركه في لم يكن ليملأه سوى الإحباط.

كانت رغبتي رغبة مريض، رأى في صدمة أخرى شفاءه من كل الصدمات، خصوصا وأن حملة مفاجئة لضم جنود جدد غذت طموحاتي الغارقة في يأس منكسر بالحيرة، هل تعرف ما الحيرة ؟ إنها حركات الأفاعي في النفس… ونفسي عامرة، عامرة وعامرة.

من حيرتي …أعطيتهم اسم علال بن حمو الشواف، ثم حملونا إلى مكناس بمركز هرمومو وسط غابات ممتدة.

قائدنا الكولونيل اعبابو يدربنا بشكل قاس في الليل والنهار، كما لو أنه يهيئنا لحرب عالمية ثالثة،

كان قائدا عجيبا، وكنت معجبا به إلى حد الولع. بعنفه، بفرنسيته الطليقة، وقامته القصيرة وملامحه الشجاعة، والأهم يقينه الشامخ بما يريد وروحه التي لم نعرف، لحظتئذ، أهي في كفه أم في قلبه أم في عقله أم في جيوب سرواله الكاكي.

كل يوم يزداد إعجابي بمون كولونيل اعبابو حتى إني حلمت به في السويعات القليلة التي أخلد فيها إلى النوم.

في إحدى المرات من صيف 1970، دفعنا إلى الغابة للبحث عما يمكن للجندي أن يصنع به سلاحا وهو مجرد من بندقيته… فتهت، وفجأة وجدته أمامي وهو يضحك:

- ما اسمك، صولدا ؟

- العيساوي مون كولونيل (ونسيتُ للمفاجأة والحب أن أقول اسمي المستعار الذي دخلت به).

- إني أذكرك، فأنت جيد في القنص والهجوم، قلبك ميت، ديال un vrai soldat

- شكرا مون كولونيل.

ثم وضع يده على كتفي، وبدأ في المشي، ليفاجئني مرة أخرى.

هل تعتقد أننا سننتصر في غزوتنا على الجمهورية الفرنسية ونعقد عليها الحماية، صولدا ؟

لم أجد جوابا غير النظر إليه في التفاتة سريعة مصحوبة بابتسامة مجهولة، ليلقمني بسؤال آخر :

ماذا تريد أن تكون، صولدا ؟

أريد أن أكون رئيسا على هذه البلاد.

هل هناك فم روحاني آخر، يلجم لساني الطبيعي فيتكلم بكلام لم أفكر، قط، في حرف من حروفه أو معنى من معانيه؟

ضحك الكولونيل عبابو عميقا وعاليا، ثم توقف وابتعد عني وقال لي وهو ينظر في عيني :

-صولدا، في العاشر من يوليوز ستكون رئيسا على هذه البلاد، تهيأ جيدا، البروتوكول ضروري. ثم انصرفَ، متعجلا بِخطو القدر.

لوني الأسود يلمع بحرية واشتهاء للنور، وفي الصيف تختلط علي عديد من الذكريات الماضية والسحيقة والآتية، كما لو أنا حنش صحراوي ممدود وسط الرمال.

جاء يوليوز من سنة 1971، كان مون كولونيل اعبابو أشد أناقة وحبورا، وعلمنا دروسا أخرى دعمت معنوياتنا ورقى بعضنا ووعد الآخرين بترقيات مهمة، وفي اليوم التاسع هيأنا بأننا سنذهب فجر يوم العاشر من يوليوز لإجراء مناورة، ثم نظر إلي وقال : “هل ما زلت على وعدك، صولدا ؟”

ثم واصل كلامه.

قبيل الفجر خرجنا من هرمومو بسيارات جيب وخمس وعشرين شاحنة بها ألف وثلاثمائة وثلاثة وثلاثون جنديا ببنادقهم والذخيرة الحية والقنابل وأسلحة أخرى، تذكرت قول الشاعر وقلت : أنَّى شئت يا طريقي فكوني نجاة أو أداة أو هلاكا.

هل خدعني مون كولونيل وشيخي اعبابو ؟

في عيد ميلاد الملك بالصخيرات ونحن ذاهبون في صفقة انقلاب كنا أنا واعبابو فقط على علم بها، هو بالصريح وأنا بالمرموز.

انطلق الموت فانسحبت،بعدها رميت سلاحي في ساحة انقلاب لم أخطط له في الواقع، وهربت إلى الأبد  تاركا  شيخي يموت وحيدا، وحيدا.. وحيدا.

هل كان يوليوز شهر حصاد النوايا أم بذرها ؟


دم الأنبياء لا يباع

المعلومات الأخيرة حول حياة ثالث الحكماء، السيد العيساوي لم تدون حتى الآن في الوثائق، أو ضمن أية مسودة مخطوطة، ولكن الشعب المغربي كله شهود على هذا، وبالتحديد بعض من الأمة المغربية، لأن ذلك في جزء منه مر في التلفزيون وجزء آخر تم تهييئه سريا مع العيساوي.

انتبه العيساوي، وقد عاد من جولته اليومية رفقة جحشه الذي تركه بالفندق، أن حدثا جديدا بمفاهيم جديدة يهم تشكيل لجنة تسمى الإنصاف والمصالحة، ظهر وبان بكل أمان،  وذلك يوم سابع يناير 2004،تتلخص مهامها في الكشف عن الحقيقة وجبر الضرر ورد الاعتبار ثم المصالحة.

في مارس 1997 خمن العيساوي أن حكومة التناوب ستفتح صفحات جديدة… وكان هناك كلام عجيب ووعود محلقة في سماء الحاضر والمستقبل. وقد جلس العيساوي كل مساء أمام نشرة الأخبار يستمع ويراقب لمدة سنتين… ثم قال قولته الشهيرة :”زهق الحق وظهر الباطل في لباس جديد”. ثم لم يعد يلتفت إلى غير أخبار المقهى.

ولكنه اليوم يعود إلى الإنصات رفقة رفاقه القدامى والجدد. وبعد ثلاثة أشهر توقفت سيارة فارهة في ساحة المحطة القديمة حيث ينتشر المعاكيز .يلعبون الورق والضامة، فانكبوا هرعين نحوها معتقدين أنها جاءت لأخذ عمال في عمل يومي… كما يقع باستمرار.

الذي حصل أنه خرج من السيارة سائق وثلاثة رجال من الشداد الغلاظ بلباس موحد يدل على أنهم حراس يحرسون رجلا مهما بنظارته السوداء، وقد بقي الرجل المهم مختبئا في الخلف مذعورا من هذا المشهد الذي أرعبه واعتبره، في لحظة خاطر خاطفة، انه مؤامرة مدبرة ضد مسؤول أساسي من فريق العمل المكلف بالتحريات في هيئة الإنصاف والمصالحة.

نهروا بقوة وبصلافة كل المعاكيز الذين رجعوا خائبين إلى قواعدهم. وقد أثار هذا المشهد رواد مقهى موسى وخصوصا حينما تقدم أحد الحراس في خطو واثق نحو المقهى وسأل عن العيساوي.

ركب العيساوي إلى جوار السيد المسؤول في سيارته الفارهة، ثم عرفه بشخصه وبمسؤوليته وأنه جاء من أجله ويود أن يجلس إليه متحدثا في بعض التفاصيل.

على مائدة مستديرة بإحدى قاعات عمالة المدينة، قنينات مياه غازية ومشروبات وفواكه وحلويات. أعاد السيد المسؤول أنهم وجدوا اسمه مدرجا ضمن قوائم المتضررين، منذ 1959 إلى غاية 1999. وقد بحثنا فوجدنا أنك بالفعل اعتقلت في سنة 1973 ثم في سنة 1981 دون أن تثبت في حقك تهمة معينة، وأنه في إطار التحريات الأولى، نريد أن نهيئ معك الشهادة التي ستلقيها في إطار جلسات الاستماع العمومية التي ستتم أمام جمهور من السياسيين والحكوميين والمثقفين… وسيتم نقل تلك الوقائع على شاشات التلفزة والإذاعات الوطنية مباشرة.

ما زال العيساوي مستمعا والسيد المسؤول يشرح تفاصيل السيناريو.بعدها قرأ عليه “الوثيقة المرجعية لجلسات الاستماع” ودورها التربوي البيداغوجي، ثم خاطبه كما لو أنه يقول له سرا عليه الاحتفاظ به لنفسه فقط، بأن الكلام الذي سيقوله سيستمع إليه كبار رجالات الدولة والحكومة، وستتم ترجمته للرؤساء العرب والأوروبيين، لذلك، ومن أجل إنجاح “العدالة الانتقالية” لابد أن يكون كلام سي العيساوي – يقول السيد المسؤول- مضبوطا ومغرزا ومخدوما ومؤثرا، ولدينا لجنة يمكنها أن تصوغ كل أفكارك في ثياب جميلة، وختم أن هذه العملية مؤدى عنها، وأن مصاريف لباسه وإقامته هي على حساب الدولة المغربية.

بصوت بارد وخفيض قال العيساوي :

-ما ترونه أفعله…. بالنسبة لما سأقول سيكون خطابا قصيرا.

-(قاطعه السيد المسؤول) مستحيل.

أنت ستتكلم أمام الدولة والعالم مباشرة ولن نسمح بهذا.

فكر العيساوي بسرعة ثم رد عليه بأن يكتبوا له ثلاث صفحات وسيقرؤها، فالمسألة تتعلق بمرحلة كاملة وبالعدالة الانتقالية وصورة المغرب.

استبشر السيد المسؤول وأعطى للعيساوي هاتفا محمولا حتى يتمكنوا من الاتصال به، ومبلغ عشرة آلاف درهم كعربون قبل السهرة.


مطرب الوطن يطرب :

روى لأصدقائه بالمقهى جلسة التفاوض والمصالحة وختم لهم بأنه مثل المطرب في هذه العملية، سيكون له صوته فقط، أما الكلمات والتوزيع الموسيقي والإخراج الكليبي فله أهله الذين يقدرون عليه.

بعد أيام من هذا الحدث الجديد، اجتمع رواد المقهى ونصبوا هيئة للإنصاف والمصالحة؛ أعضاؤها بشير السياف رئيسا وأربعة أعضاء هم الجلايدية وحمو الشواف واشْعَيْبَا الرَّايْ والدكتور ضريسة…. مهمتها هي تحديد الأضرار بالنسبة للعيساوي. وفعلا اجتمعوا عشرات الاجتماعات السرية في الفندق وعند بشير السياف، ودونوا تقريرا مفصلا من ثلاث وأربعين صفحة من حجم 21-29 سنتميتر، كتبت بقلم الحبر الكركاعي الذي أهداه الشهيد سمير الزعفراني للبشير السياف قبل اختطافه بأسبوعين، قائلا له: خذ هذا القلم أنت من سيكتب النهاية. اقترح العيساوي على اللجنة أن يتكلف الدكتور ضْريسة بالتكلم نيابة عنه، فشعر الدكتور بفخر وصار يدفع بالفكرة للتحقق.

*

ثلاثة أيام قبل الجلسة الواحدة والثلاثين بعد المائة والتي ستنعقد بمدينة الرباط، أخذوه إلى الحمام والماكياج وتجريب أنواع كثيرة من الألبسة عليه حتى استقروا على واحدة. وفي يوم الجلسة في الساعة الثالثة بعد الزوال من يوم الأربعاء 30 نونبر 2005، اكتظ المواطنون بمقهى موسى للتفرج على الحلقة الجديدة رغم أنها منقولة بجميع التلفزات، ويمكن متابعتها بكافة المقاهي والبيوت، لكن متعة المواطنين أن ينظروا إلى العيساوي من المكان الذي يوجد به باستمرار.

*

بعد الكلمة المؤثرة للأستاذ الباحث عضو الهيئة، الذي وضع شهادة الشخصية الجديدة في إطارها التاريخي والسياسي والثقافي والانتروبولوجي.أعطى الكلمة للعيساوي الذي سلموه الخطاب مشكولا وبخط كبير وأعادوا عليه تلاوة شروط المسابقة والالتزام والتحذيرات من السقوط في ما يمس الديمقراطية الجديدة والأمن الداخلي وصورة المغرب.

اعتدل العيساوي، ثم بسمل وحمدل وذكر الله والرسول وصلى عليه وعلى آله وأصحابه، ثم قال :

“كلماتي قليلة، أمام ورقة بها خطاب وأنا لا أجيد القراءة والكتابة (كان يعبث معهم في الحقيقة كما تعود دائما) الشهيد سمير الزعفراني اختطفوه من بيننا.

أين هو الآن، بعد شهر قالوا مات ودفنوه. رفاقي دونوا تقريرا فيه ضحايا عائلتي العيساوية منذ القرن السادس عشر. من المسؤول عما قبل 1956 وما بعد 1999.

كل شيء في هذا التقرير الذي كتبه رفاقي.

أنا جبان، هربت وتركت مون كولونيل لا أريد شيئا… قالت الهيئة “إنه لأول مرة يسمح للضحايا بإسماع أصواتهم” ولكن الغريب أنه لم يسمح للمغاربة، غير الضحايا، ولو مرة لإسماع أنينهم وصراخهم. وقالوا لنا إنه “حَكْيٌ وطني حول المعاناة والآلام الماضية” ولكن أين الآلام الحاضرة. إني ما أزال أشك في نفسي وفي حيرتي. هناك في البلاد أيها الناس حياتان: حياتنا وحياتهم.

وكلمتي الأولى والأخيرة الله أكبر دم الأنبياء لا يباع، والسلام عليكم.

ارتبكوا، واعتبروا ما فعله العيساوي هو مؤامرة محارب قديم يحمل فكرا إرهابيا يريد أن ينسف تجربة العدالة الانتقالية.

لم يكلموه، بل لم ير من المسؤولين أحدا، وكلفوا سائقا بإيصاله إلى مدينة سطات، كأنما أدى دوره وانتهى كل شيء، فيما استغل أحد أعضاء الهيئة هذا الحدث للتنويه بالديمقراطية وأنهم يفتحون المجال للمناضلين الضحايا أن يعبروا وينتقدوا بالمباشر.

خاصم الدكتور ضريسة صديقه العيساوي لأنه لم يذكره في كلمته التاريخية، وأعلن عن انشقاق عن الهيئة، وفي المساء شكل لجنة أسماها اللجنة المحلية لجبر الضرر ونصب نفسه رئيسا وضم إليها صاحبته لالة هنية والبهلول ورحال الثوام وبوعبيد، وفي اليوم الموالي دعا الهيئة التي انشق عنها إلى التنسيق.


***


رابع الحكماء، ميلود الحجام الذي يخفف عن الناس آلامهم بقرقاراته القصديرية القادرة على مص الدم الخاسر وتصفية الرأس من آثام ثقيلة، وصداع منفلت. لا أحد يعرف عنه شيئا، باستثناء أنه كان طفلا ثم كبر في هذا المكان يحجم للآدميين طيلة أيام الأسبوع سوى زوال يوم السبت إذ يتواجد بمنطقة لكنانط يصفد للجمال بإبره السحرية، كبيرة الحجم، والتي يغرزها برشاقة في عروق معلومة من القفا، فيطلع الدم الخاسر مثل نافورات حمراء.

ثلاثة غرائب ترتبط بحياة ميلود ولا توجد في غيره، الجميع يعتقد أنه أصم وأخرس ولم يره أحد يتكلم قط ويكتفي بالإشارات. والحقيقة أنه في كل مساء يطلع إلى النزالة ويقتني لترا من النبيذ الأحمر الرخيص ثم يأخذه إلى العراصي ليشرب مع أحمد (النشبة) أو غيره. خلال ساعتين، يحكي بتفصيل دقيق كل ما جرى في اليوم الذي قضاه لا يسمع ولا يتكلم وإنما كان يفعل ويرى.

الأمر الثاني، أنه كل يوم قبيل الغروب بساعة تحمر عيناه بشكل مرعب، كما لو أنهما كوبان مليئان بالدم، فيضطر إلى استعمال نظارات سوداء، ومع المدة، كان كل الذين لا يعرفون هذا الأمر يستغربون لماذا لا يضع النظارات السوداء إلا وقت الغروب.

وثالث الأمور الغريبة في حياة ميلود الحجام أنه يحجم للنساء أيضا، وبدون أجر، ويتأفف ويعبر عن قلقه لو ألحت المرأة (وكلهن عجائز) كي يأخذ أجر عمله.

خامس الحكماء، أحد أكبر عتاة المدينة خلال ثلاثة عقود، يسمى اشعيبة، ويعرف بالراي وكنيته تعود إلى الرقم اثنا عشر في لعب الورق ومرسوم عليها صورة ملك.

نسج حوله الناس أساطير كثيرة عن قوته وصراعاته التي كان يهزم فيها العشرات بأسلحتهم البيضاء، ولم يكن يخشى أو يستسلم لأحد،عدا أخته حمرية.

في الوثائق المعنونة بهتاف البهاليل بتاريخ 21 يوليوز 1987 ورابع نونبر من نفس السنة، تخطيطات جاءت في صيغة أفكار ونقط :


زمن الرَّايْ :

النزالة ..هي وكر كل علوم الأرض والسماء المتصلة بروحانيات الذات واللذات، عبارة عن بيوتات من قش وطين ونوايل لا تترك غير مسارب صغيرة للمرور.

الظلام الثقيل، كتم أنفاسه المتزاحمة وسط صراعات وصراخ وغناء وأصوات نساء وسكر وانتصارات وهزائم.

مع عودة الرَّايْ يخف الصراخ الزائد وسط انتباه الجميع،فيما آخرون في أماكن مختلفة، قريبة أو بعيدة ينسجون حوله الحكايات، مثلما  نساء عديدات  يتوددن إليه  كي يصبح حاميهن…. وهو غير مبال، في سكره وحكاياته الحقيقية والمختلقة له .

كانت مقهى موسى تسمى مقهى السويقة، وحينا بمقهى الرَّايْ العظيم !! فيها يبدأ نهاره، يدخن الكيف ويشرب الشاي، وبعد الظهيرة، يذهب إلى حانة مدام باريجو بمعية رفيقيه الحميمين بوعبيد والقب.

بوعبيد، كبير القمارين بكل البلاد، أما القُبْ فأخف سارق، يستطيع الصعود في حائط مثل أي نمر متدرب.

تعود الرَّايْ الدخول إلى السجن في فصل الشتاء.

يختلي بنفسه، وقد تعود ألا يكلم أحدا أو يقرب منه أحدا وهو في السجن. وهي العادة التي أصبح عليها في شيخوخته، كما لو أنه أدرك بحكمته التي لا يطولها الصدأ أن المدينة هي بدورها  سجن كبير رغم أوهام الحرية.

لم يكن أحد يدرك طبيعة هذه العلاقات غير المصنفة داخل ثقافة منمطة، فبوعبيد والقُبْ وأهالي النزالة، الرَّايْ بالنسبة إليهم هو نبي منهم وليست مهمته أن يهديهم إلى الصلاح أو ينهاهم عن سبل الفساد، ولكن الانتماء إليه حماية لهم من بطش الباطشين، وهو ما كان يقودهم إلى الموسم السنوي للسيد الشيخ الهبطي في أعلى ربوات الشاوية المقدسة وبالتحديد في الإطلالة العالية لقبائل المزامزة المجاورة لحقول منبسطة تشكل محركا للخيالة واستعراض شموخ الفانتازيا، كل مساء.

في هذا الموسم السنوي، تنتقل حياة النزالة إلى كل عنفها وشاعريتها…. غناء وسكر ودهشات تدهش المألوف دون رحمة في غشت الذي لا يستعير شيئا غير الجنة والجحيم في لحظة واحدة.

على أقدامهم حجوا في اتجاه ربوة بويا الهبطي، باستثناء العجائز والشيوخ الذين يجدون وسائل تقليدية للنقل… تقودهم بركات الشيخ، وخطوات الرَّايْ الواثقة.

جهة النزالة، في ذلك الموسم، مشرعة على الروح وسط المجامر وجرار النبيذ، والسروج المتعجلة لركوب الظهيرة وعهودها.

زغاريد تهتك كل الأوقات… وتحرر الحلم من روائحه التي لا رجع فيها لصدى هذا الزمن وهو يمتحن الحياة في حيواتها. المرة الوحيدة في السنة (وفي هذه الربوة المقدسة) التي يسمح فيها الرَّايْ العظيم لروحه الرحبة بالآثام والجنون والعبث أن تسيح خارج الحدود، وتتماهى مع تموجات الطقس،لذا فانه يرقص يوميا في الهواء الطلق وفوق تراب التيرس، حافي القدمين، يلبس فرجية بيضاء.. هل هو مسيح أم مجذوب؟ بشعره المنسدل،الذي يعكس سوادا لماعا ولحيته المشذبة بعناية، وبعينيه المسبلتين، باستمرار، وهما الكفيلتان بتطريز لوحات نورانية  لن يبدعهما غيره، وغيره فقط، كل يوم في الظهيرة وساعة الغروب،تناوبا، حتى بات جمهور من غير أهالي النزالة ينتظرون نزول الراي إلى جذبته اليومية.


كلام..

كتب سمير الزعفراني، وهو في المقهى قبل اختفائه بأربعة أيام، على ورقة بيضاء صغيرة وكان ينظر إلى الطاولة الأخرى التي جمعت الجلايدية والعيساوي و الرَّايْ :

ثلاثة حكماء اجتمعوا فقالوا :

الأول : أنا الجلايدية أفكر في أي شيء ولا أندم عليه.

الثاني : أنا العيساوي أقول أي شيء ولا أندم عليه.

الثالث : أنا الرَّايْ أفعل أي شيء ولا أندم عليه.

ثم سرَّبَ الورقة إليهم ومضى.

طارئ لم يكن في الحسبان :

لم أجد ولو إشارة إلى ما يفسر تلك الجملة الغامضة التي أشارت إلى حدث سياسي سيُعقِّد حياة الزعفراني… وبعد ذلك سيختفي، وسيعلم كل أصدقائه بشارع الملائكة وبالمقهى، والعمل والعمارة بأنه اختطاف، دفع العيساوي إلى الإلحاح على معرفة الحقيقة كاملة.

وبعد سنة ونصف سيخرج، وصرح بأنه لن يتكلم إلا حينما ينتهي من كتابة كل شيء.

كان الصباح ما زال راقدا مثل وليد في بطن أمه،في الشهر الثامن، لحظة قفز من مكانه مرعوبا، دون أن يفتح عينيه، فقط صرخة مكتومة تمددت –حينما لم تخرج- بداخله تتعجل تمزيق مساحات كانت حية وصامتة، ولن يعرف مدى حجم خسائرها من النزيف.

في أقصى سرعتها التي لم ينتبه إليها وهو يسوق سيارته، إلا حينما انفجرت عجلتها اليسرى وانحرفت به في أقل من رمشة عين وليد يرى لأول مرة، فارتطم جناحها الأيمن بشجرة أوكاليبتوس، ليكون ارتطاما حاسما وكافيا، ولكون سمير لم يكن مربوطا بحزام السلامة، فحين تفرقعت  نفاخة الايرباك،ارتطم رأسه بقوة  وظلت قسمات وجهه على حالها، كما لو أن هذا الارتطام هو حركة عابرة.

استمرت السيارة في اختراقها الأهوج بعدما فقدت جناحها الأيسر أيضا مخترقة الحفر الترابية في الحقل القاحل، قبل أن تنقلب ثلاث مرات وينفتح الباب لوحده.

تدلى نصف جسد الزعفراني، وبدأ النزيف الساخن يقطر بانسياب غريب عاشق لجفاف الأرض.

ارتعادة مفاجئة وسريعة، وعين ترمش دون أن ترمش… فيما قسمات وجهه ما تزال تحتفظ بنفس حركاتها الأولى.

تدلى الرأس مع نصفه الأعلى من مقعد السيارة خارج الباب… ثم استمرت الدماء منسابة لتتخثر.. وفجأة يفتر عن ابتسامة مندهشة ليرى نفسه بلباس أبيض لا تطوله الأوساخ،يرقص ثائرا فوق الماء والدم والتراب في لحظتين متوازيتين؛ غروب شمس صيف طويل وأمطار متزاحمة، دم وعرق وعينان نصف مسبلتين ونصف مغمضتين، وأنين أغاني متقطعة وغير مفهومة… فيها نواح وضحكات ورقص فوق شيء يرن مثل الطبل.

مات سمير الزعفراني، ولا ضرورة للبحث عن أدوار جديدة، لأن الموت كان مدبرا ليس من قِبل الروائيين أو أي كاتب عمومي وإنما ممن كانوا سببا في اعتقاله لعام ونصف العام دون محاكمة في معتقل درب العهد الجديد، ولم يمض شهر حتى وقع ما وقع بدليل أنهم أخذوا السيارة ولم يسلموها أبدا لعائلته أو لأي جهة أخرى بعدما تقدم العيساوي والسياف بطلب فحص السيارة وعلاقتها بالحادث.

(تُطلب الرواية من المكتبات  ومن الموقع على شبكة الانترنيت:نيل وفرات.كوم: www.neelwafurat.com؛ أو مراجعة موقع الدار العربية للعلوم ناشرون : www.asp.com.lb   -   www.aspbooks.com)


المحرر(ة): علاء حليحل

شارك(ي)

أرسل(ي) تعقيبًا

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

يمكنك استخدام أكواد HTML والخصائص التالية: <a href="" title=""> <abbr title=""> <acronym title=""> <b> <blockquote cite=""> <cite> <code> <del datetime=""> <em> <i> <q cite=""> <strike> <strong>