خطبة لماركيز: كيف بدأتُ الكتابة؟

بعد ستة أعوام من نشر روايته الأخيرة “ذكريات عاهرا […]

خطبة لماركيز: كيف بدأتُ الكتابة؟

جابريئيل غارثيا ماركيز

جابريئيل غارثيا ماركيز

بعد ستة أعوام من نشر روايته الأخيرة “ذكريات عاهراتي الحزينات” يعود جابرييل جارثيا ماركيز، الكولومبي الحائز على نوبل سنة 1982، بكتاب عنونه: “لم آتِ لإلقاء خطبة”، والذي يضمّ 22 خطبة كتبها على طول حياته ليقرأها على الجمهور.

الكتاب لم يكن سوى مجموعة أوراق في دوسيه انتبه له منذ عام ونصف العام، ويضمّ حتى الخطبة التي كتبها وهو في السابعة عشرة ليودّع بها زملاء مدرسته، كما يضم آخر كلمة ألقاها في مجمع اللغة الإسبانية سنة 2007. وبذلك، يختصر 63 عاماً من ذاكرته الشفوية، وهو الكاتب الذي يكره دوماً الحديث أمام الجمهور، كما أنه يعكس هواجس الكاتب الكولومبي والذكرى الجميلة التي تركها في نفسه أصدقاء أعزاء له مثل كورتاثر وألبارو موتيس.

يضمّ الكتاب نصوصاً أهمها: “كيف بدأت الكتابة” و”الصحافة: أفضل مهنة في العالم” و”زجاجة في البحر من أجل إله الكلمات”. كما يتناول أيضاً قضية المخدرات في كولومبيا بخطاب عنونه “هل توجد أمريكا اللاتينية؟”، وعن الكوارث البشرية ألقى خطابه “كارثة ديموكليس”. ويضمّ الكتابُ الخطاب الذي ألقاه في الثاني من ديسمبر سنة 1982 بمناسبة فوزه بجائزة نوبل.


كيف بدأت الكتابة؟

|جابرييل جارثيا ماركيز|

قبل أيّ شيء، أعذروني لأنني سأتحدث جالساً، فالحقيقة أنني لو نهضتُ سأضع نفسي في مغامرة السقوط من فرط الرهبة. حقيقةً. فأنا اعتقدتُ دوماً أن أصعب خمس دقائق في حياتي سأقضيها وأنا راكب طائرة أو متحدّث أمام 20 أو 30 شخصاً، وليس أمام 200 صديق كما هو الحال الآن. لحسن طالعي، ما يحدث لي في هذه اللحظة يسمح لي أن أبدأ في الحديث عن أدبي، لقد كنت أفكر أنني بدأت أكون كاتباً بنفس الطريقة التي صعدت بها لهذه المنصة: مُجبرًا. أعترف أنني فعلت كلّ ما بوسعي لكيلا أحضر هذا المؤتمر: حاولت أن أمرض، فعلت ما يسبّب لي التهاباً رئوياً، ذهبت للحلاق على أمل أن يذبحني، وفي النهاية، خطرت ببالي فكرة الحضور من دون بدلة ولا كرافت حتى لا يسمحوا لي بالدخول لمؤتمر رسميّ كهذا، لكنني نسيت أنّ المؤتمر في فنزويلا، حيث يمكن الدخول إلي أيّ مكان بالقميص. والنتيجة: أنا هنا دون أن أعرف من أين أبدأ؛ لكنني سأحكي لكم، مثلاً، كيف بدأت الكتابة.

لم يخطر ببالي مطلقاً أنني من الممكن أن أكون كاتباً، لكن أثناء فترة دراستي، كتب إدواردو ثالاميا بوردا، مدير الملحق الأدبي بجريدة الإسبيكتادور ببوجوتا، ملحوظة مفادها أنّ الأجيال الجديدة من الكتاب لا تقدّم شيئاً، فلا يُرى قاصّ جديد ولا روائيّ جديد. وختم مؤكداً أنهم يلومونه لأنه لا ينشر إلا لأسماء معروفة لكتاب كبار، وفي المقابل لا ينشر لشباب، بينما الحقيقة -كما قال- إنه لا يوجد شباب يكتبون.

حرّكني حينئذ شعور بالتضامن مع أبناء جيلي وحللت المشكلة بكتابة قصة قصيرة، ليس إلا لإغلاق فم إدواردو ثالاميا بوردا، الذي كان صديقاً عزيزاً لي، أو على الأقل صار كذلك بعدها. جلستُ وكتبتُ قصة وأرسلتها لجريدة الإسبيكتادور. الرهبة الثانية انتابتني يوم الأحد التالي، عندما فتحت الجريدة ورأيت قصتي في صفحة كاملة ومعها ملحوظة اعترف فيها ثالاميا أنه كان مخطئاً، لأنه من الواضح أنه “بهذه القصة قد ظهر عبقري الأدب الكولومبي”، أو قال شيئاً شبيهًا.

هذه المرة حقاً مرضتُ وقلت لنفسي: “أيّ ورطة أدخلت فيها نفسي! وماذا سأفعل الآن حتى لا أحبط إدواردو ثالاميا؟”. أن أستمر في الكتابة، كانت هذه هي إجابتي. وكنت أواجه دائماً مشكلة الموضوعات: كنت مضطراً للبحث عن حكاية لأستطيع كتابتها.

مهنة الكاتب ربما تكون المهنة الوحيدة التي كلما مُورست ازدادت صعوبتها

وهذا يسمح لي أن أقول لكم شيئاً أتحقق منه الآن، بعد أن نشرت خمسة كتب: مهنة الكاتب ربما تكون المهنة الوحيدة التي كلما مُورست ازدادت صعوبتها. فالسهولة التي جلست بها لأكتب تلك القصة ذات ظهيرة لا يمكن أن تقارَن بالجهد الذي أبذله الآن لكتابة صفحة. أما منهجي في العمل، فيرتبط ارتباطاً وثيقاً بما أقوله الآن. لا أعرف مطلقاً كمية ما أكتبه ولا ماذا سأكتب. أنا أنتظر حتى يخطر شيء ببالي، وعندما تلوح لي فكرة وأقيّمها أنها جيدة للكتابة، أجعلها تتجوّل في رأسي، وأتركها حتى تنضج. وعندما تختمر تمامًا (وقد تمرّ سنوات طوال، كما حدث في “مئة عام من العزلة” حيث مرّت تسع أو عشر سنوات وأنا أفكر فيها) أكرّر، عندما تختمر، أجلس لأكتبها وهنا يبدأ الجزء الأصعب والأكثر مللاًُ. فليس هناك أمتع في الحكاية من ميلادها، تجوّلها في الرأس، حركتها وتمرّدها، أما ساعة الجلوس لكتابتها فلا تهم كثيراً، أو على الأقل لا تهمني أنا كثيرًا.


الفكرة التي تجول بالرأس

سأحكي لكم، مثلاً، الفكرة التي تجول في رأسي منذ عدة سنوات وأشكّ في أنها قد نضجت بشكل كاف. سأحكيها لكم الآن، لأنه من المؤكد عندما أكتبها، لا أعرف متى، سترون حضراتكم أنها صارت مختلفة تماماً وسيمكنكم أن تلاحظوا بأيّ شكل تطوّرت. تخيلوا أنكم في قرية صغيرة تقطن فيها سيدة عجوز، لها من الأبناء اثنان، أحدهما ولد في السابعة عشرة، والأخرى فتاة في الرابعة عشرة، تُقدِم لهما الإفطار ذات يوم بوجه تعلوه علامات القلق. يسألانها عمّا حدث، فتخبرهما بأنها استيقظت وهي تشعر بأنّ شيئاً خطيراً جداً سيحدث في هذه القرية. يسخر الابنان من أمهما. يقولان إنه شعور سيدة عجوز، أشياء وتمرّ. ويذهب الابن ليلعب البلياردو، وفي اللحظة التي يوشك فيها على ضرب الكرة يقول له اللاعب الآخر: “أراهنك ببيزو أنك لن تصيب”. يضحك الجميع. ويضحك الابن. ويضرب الكرة فلا يصيب. يدفع البيزو، ويسأله الجميع عمّا به، فقد كانت لعبة في غاية السهولة، فيجيبهم: “أنتم مُحقون، لكنني مشغول جداً بأمر أخبرتني به أمي هذا الصباح، قالت إنّ شيئا خطيرًا جدًا سيحدث في هذه القرية. سخر منه الجميع. وعاد اللاعب الذي فاز عليه وربح البيزو إلى بيته، حيث سيجد أمه أو حفيدته أو أية قريبة أخرى. وسعيداً بالبيزو الذي ربحه يقول: “لقد ربحت هذا البيزو من داماسو بطريقة بسيطة جداً، لأنه أحمق”. “لماذا تقول إنه أحمق؟”؛ “لأنه لم يستطع أن يصيب كرة سهلة قائلا إنّ هناك فكرة متسلطة تلاحقه، حيث أنّ أمه قالت له إنها استيقظت وهي تشعر بأنّ شيئا خطيرا جدا سيحدث في هذه القرية. تجيبه أمه حينئذ: “لا تسخر من نبوءات العجائز فأحيانا تصيب”.

تسمعه وتذهب لشراء اللحم. تقول للجزار: “أعطِني رطلا من اللحم”. وفي اللحظة التي يقطع لها ما طلبته تضيف: “إجعلهم رطلين، لأنهم يقولون إنّ شيئا خطيرا سيحدث ومن الأفضل أن نستعدّ له”. يعطيها طلبها. وعندما تأتي سيدة أخرى تشتري رطل لحم آخرَ، ويقول لها: “خذي رطلين، لأن الناس يقولون إنّ شيئا خطيرا سيحدث، ولذا يستعدون ويشترون ما يكفيهم من المؤن”. حينئذ تجيبه العجوز: “لديّ العديد من الأولاد، ومن الأفضل أخذ أربعة أرطال”. تأخذ طلبها وتسير. وحتى لا أطيل القصة، سأقول إنّ الجزار باع كل اللحم في نصف ساعة، وذبح بقرة أخرى وباعها كلها، وذاعت الشائعة. وتأتي لحظة يكون فيها أهل القرية في انتظار حدوث شيء، فتتوقف كل الأنشطة. وفجأة، في الساعة الثانية ظهرًا، عندما يشتدّ الحرّ، يقول أحدهم: “هل انتبهتم لهذا الطقس؟”؛ “نعم، لكن طقس هذه القرية دومًا حار”؛ “ومع ذلك -يقول أحدهم- لم يكن حارًا أبدًا بهذه الدرجة في هذه الساعة”؛ “لكن الثانية ظهرًا أشدّ ساعات الحرّ”؛ “نعم، لكن لم يكن حارًا مثل الآن”.

تصير القرية خالية، والميدان خالياً، فيهبط عصفور، وينطلق فجأة صوت: “هناك عصفور في الميدان”. ويتجمع الناس، يرتجفون خوفا، ليروا العصفور. “لكن يا سادة، عادة ما تهبط العصافير للميدان”؛ “نعم، لكن العصافير لم تهبط قط في هذه الساعة”. ويصاب أهل القرية في لحظة بالضغط، ويصيبهم اليأس، ويتمزقون بين هجر القرية وعدم توافر الشجاعة لفعل ذلك. يقول أحدهم: “أنا رجل وسأرحل”. يضع أولادة وأثاثه وحيواناته في عربة، ويعبر بالشارع الرئيسي للقرية المسكينة التي تتفرج عليه، حتى يقولوا: “إن كان هذا تجرأ وفعلها فنحن أولى بها”. ويبدأ الخروج حرفيا من القرية. يحمل أهلها أشياءهم وحيواناتهم وكل شيء.

ويقول أحد الأواخر الذين يهربون من القرية: “حتى لا تقع النكبة على ما تبقي من بيتنا”. ويحرق بيته ويفعل الآخرون مثله. ويهربون في ذعر هائل وحقيقيّ، كما لو كان هروبًا في حرب. وفي الوسط تسير السيدة العجوز صاحبة النبوءة، صارخة: “قلتُ إنّ شيئا خطيرًا جدًا سيحدث في هذه القرية، وقالوا إنني مجنونة”!

(ترجمة: أحمد عبداللطيف؛ نص الكلمة التي ألقاها في أحد مؤتمرات الكُتاّب بفنزويلا؛ عن “أخبار الأدب”)


المحرر(ة): علاء حليحل

شارك(ي)

2 تعقيبات

  1. “قبل أيّ شيء، أعذروني لأنني سأتحدث جالساً، فالحقيقة أنني لو نهضتُ سأضع نفسي في مغامرة السقوط من فرط الرهبة. حقيقةً. فأنا اعتقدتُ دوماً أن أصعب خمس دقائق في حياتي سأقضيها وأنا راكب طائرة أو متحدّث أمام 20 أو 30 شخصاً، وليس أمام 200 صديق كما هو الحال الآن”

    افتتاحية عبقرية – ليس من الناحية الفنية والأدبية والجمالية فقط بل ايضاتقنية ناجعة للتغلب على الرهبة

  2. أحبكم يا من تحررون في قديتا!
    وأحب ماركيز ولا أستطيع أن اقرأ حرفاً لماركيز دون أن يشهق قلبي. يا ليت “عبقري” تفي حقه..

    وأنتم كذلك متألقون
    أشكركم على هذا المقال.

أرسل(ي) تعقيبًا

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

يمكنك استخدام أكواد HTML والخصائص التالية: <a href="" title=""> <abbr title=""> <acronym title=""> <b> <blockquote cite=""> <cite> <code> <del datetime=""> <em> <i> <q cite=""> <strike> <strong>