سنرجعُ يوماً…/ عزيز بنا

.. |عزيز بنا| -       أضعتُ طريقي، هل تعرف أين حارتي ال […]

سنرجعُ يوماً…/ عزيز بنا

"العودة" لغوستاف كليميت

"العودة" لغوستاف كليميت

..

|عزيز بنا|

-       أضعتُ طريقي، هل تعرف أين حارتي القديمة؟

-       ومن أنتَ لأعرف؟

-       أنا ذكريات مستقبلية!

-       وكيف هذا؟! أأحمقُ أنت؟

-       تعيدني الرائحة وصوت دفء نارنا الصغيرة، حركات السنونو والجنون اللاحق بِها كدخان احتراقها، قمرٌ طفوليٌ خجلٌ يتمايل سكراً وشقاوة بين امتدادات الدوالي ترسم سقفنا النبيذيَّ مُلاعبةً بين طيّاتِها نسمة تاهت عن سربِها المهاجر من شمال الأرض إلى حيث لا غيمة تخفي الشمس حياءً، ولا قطرة من مطرٍ تبلل ما تبقى من كلام أطفالٍ سمرٍ جياعٍ مستعدين لبيع كل ما في مستقبلهم من كلام، ولن تكفيهم “بسكوتة” الملكة. شلال شعرٍ يغطي المدى الباقي في عيوني، فيختزلُ العالم سوادٌ كان البدء حين لم تكن بعد أيُّة كلمة، تحتار بين طمع دفئه أو دفء طفلٍ يرفض الله إن لم يكن أنت. هو مكانٌ تستطيع فيه أن ترى الكون كله، كما ترى في حبة رملٍ واحدة كلّ شواطئ الدنيا.

-       إمّا أنك تهزأ مني أو أنك هارب من… لا يليق الحديث إليك هكذا فما أنت إلا غريب، لكنك تقول ما لا يُفهم، من أين أنت؟

-       أتسألني سؤالي؟!

-       آه صحيح، نسيتُ أنك ضائعٌ… إذاً…لا بُد أن تتوجّه للسلطة فإنها المسؤولة عن حياتك كما حياتي. سنذهب للشرطة فلا بدّ من شخص هناك قادر على مساعدتك.

….

-       مرحباً، لقد أضاع هذا الشخص نفسه، أو ربما فقد ذاكرته المكانية، فبالرغم من أنه يعرف وُجهته لا يعرف أين تقع.

-       يا سيّدي، ليس لديّ وقت أضيّعه، وضّح ما تقول فأنا لست أديباً ولا حالماً، أنا شرطيٌ متعبٌ، أطفالٌ والتزاماتٌ أسرية وامرأة تثرثر ولا أفهم، واحتمالات كوارث تُفسد كلّ ما تبقى، إن تبقى، من راحة آخر النهار. أنهكني التكرار.

-       آسف يا سيدي، لكني لم أستطع أن أكون أوضح من ذلك، لم أفهمه وإن تكلّم تمادى!

-       حسناً حسناً، أعِدْ ما قلتَ إذاً وحاول أن يكون الكلام بقدر ما تبقى من راحتي لأفهمك.

-       كنت ماشياً في الشارع، فصادفني هذا الشخص وسألني عن حارته القديمة، وبدأ يسرد لي تفاصيلَ كثيرة مشتّتة غير مفهومة، لكن فيها أنين حنين دفين. أشفقت عليه، لكن معرفتي أقلّ من قدرة مساعدتي، لذلك جئنا إليك.

-       حسناً، ما اسمك؟

-       نسيته في حارتي، داخل غرفتي في الدرج الصغير تحت زهور الياسمين المجففة التي جمعتها منذ طفولتي، وقت كنت ألاعب تينتي وتوتتي وكل أشجار حارتي. لم أفرّق يوماً بينها، وأقاتل أسراب النمل وأقاوم احتلال الأسمنت لملاعب طفولتي النائمة، أخيّط نور فجر ال…

-       يا سيّدي، سألتك اسمك! اسمك كلمة يُعَرَّفُ من خلالها من أنت!

-       وهل أنا غير ما وصفتُ؟! هل يُعرّف اسمك ذاتك المتعبة؟ هل يعرّف أطفالك ونساءَ أيامك الضائعات؟ هل يُعرّف حنينك للطفولة المنسية، الذي تحاول جاهداً كبته بحجة أنك إنسان واقعيٌ؟ هل يُعرّف …

-       يكفي… يكفي، أنهكتني يا رجل. لا ينقصني تعب لترميه فوقي.

-       ما اسمك؟

-       أنت تسألُ الآن! جميلٌ كسر التكرار. اسمي شادي.

يضحكان متناسييْن المكان الضائع، ويحتلّ بريق عينيْهما جوُّ الصمت الضاحك.

-       هل تعرف ماذا ينقصك؟

-       ينقصني اسمي، ليس بي شادٍ إلا اسمي!

-       ينقصك ثِقَلٌ أقلّ.

-       كيف؟ لم أفهم!

-       أنت العائش خلف طواحين وهمية تحاربها وتلعنها وتكفر بها، لكنك لا تعلم أنك لا تستطيع أن تهزمها لأنها ببساطةٍ غير موجودة. كلكم هكذا أثقل من أن تستطيعوا التخلص من هذا الالتصاق البليد بالتراب، تفاصيل الحياة ترسمكم، يستطيع المارّ أن يلمحها مُنسَلّة تختبئ بمكرٍ داخل مسامات وجوهكم. كفاكم رياءً!

-       أضعتَني معك يا هذا… كنت أعرف طريق بيتي، طالما أردت أن أنساها يوماً فأرجع إلى بيتٍ آخر ويومٍ آخر، جئتَ فأضعتني. تباً لك على ما فعلت.. تباً لك!

يضحك الضائع تاركاً خلفه صمت الأيام الماضية، كمن يعرف مصيره. لم يحتمل الشرطي صمته فقال:

-       إن كنت لا تعرف طريقك الآن، أخبرني إذاً، أين كنت؟

-       كنت في الشارع.

-       وقبل الشارع أين كنت؟

-       كنت نفسي.

……..

يجلس في البيت، إنها أريكته المفضّلة، يكسوها غطاء من الفرو الدافئ، مطلّة على أضواء المدينة الجميلة في صمتها الليلي. يشعر ارتعاشة في يده اليسرى. أنفاسه منهكة. يناديها بصوتٍ مرتجفٍ. تشعر الخطر فيه فتأتي مسرعةً..

- أشعر بتعب شديد وصعوبة في التنفس، ويدي اليسرى تؤلمني..

تنتابها قشعريرة لسماع ما قال، وتسقط دموعها من وجهها. تأخذه إلى مشفىً قريب. يُصاب بنوبة قلبية حادة. إبر تدخل الجسد المرمي على الفراش البارد. كهرباء تهز ما لا يهتزّ. دموعها تفيض عن المساحة المتبقية من وجهها. تعلن عيناه انقباض الجسد. تتسارع أنفاس الطبيب المتوترة مُتعَبةً ومُتعِبةً مَن حولها. صفير مزعجٌ طويل وتعلن النهاية. لحظة من الهدوء.

ويعود… ينْزل باكياً صغيراً، يصفعه الطبيب فينتابه الغضب، يريد أن يقول له إنه يبكي فلا حاجة للصفعة التراثية هذه، لكنه لا يستطيع الكلام بعد.. لديه الكلام لكن لسانه يخذله، فإنه ما زال غير مدربٍ على الكلام ولم يعتد الحركة إلا منذ دقيقةٍ مضت. يتمعّن الأشخاص من حوله… فيزيد بكاؤه أكثر. إنهم أشخاص حياته السابقة. أمه ووجهها الضاحك الباكي، وأبوه ممسكاً يدها بقوة. – تباً لك أيها الحظ اللعين – قال في ذهنه بقوة صرخة ظهرت على ملامح بكائه لكن لسانه خذله مرة أخرى. عاد ليعيش حياته من جديد، بأشخاصها وتفاصيلها ورائحتها وصوتها ولمساتها ومذاقها. هل يمكن للحظ أن يكون أتعس أو ألعن من هذا؟!

[تطمع في الموت لتعيش فرصة حياةٍ جديدة، قد تكون أفضل أو أتعس لا يهم، المهم أنها غيرها! فترتطم بطواحين هوائك مرة أخرى وكأنك لم تفارقها أبداً].

سيكبر على كل ما كَبُرَ عليه من قبل، سيرضع الحليب ذاته من ثدي أمه الصغير، سيُفطمُ قبل أن ترتوي حنجرته من دفئ حليبها، سيبقى طفلاً في التاسعة والخمسين من العمر، سيتعلم المشي ذاته الذي ملّه سابقاً، وسيقع على الدرجة اللعينة ذاتها، وسيسُبّها وسيضحك الجميع كما ضحكوا سابقاً وسيغضب جدّه لأنهم يشجّعوه على “الهمالة” منذ الصغر، [ لو يعرف هذا الجد كم مرة سيغضب لمَلََّ الغضب واكتفى بأن يبتسم كالآخرين، فتكرار الابتسامة أسهل ]. سيراقب مواكب النمل المتعاقبة ويدحرج فوقها أحجاراً ويفيض عليها أنهاراً، سيلاعب السنونو ويجن الجنون ذاته، سيُعاقب العقاب ذاته على عناده مع معلمه في المدرسة، سيحبها ذاتها، وسيتذوقها بالطعم ذاته، وسيملّها للسبب ذاته، وسينجب الطفلين ذاتهما، وسيكبر.. ويكبر .. ويكبر.. لم يستطع أن يغيّر شيئاً من حياته، يفتقد شهوة الجديد فيها، ويبحث عن رعشة الحياة التي تذكّره بوجوده، فرحها حزنها حبها بغضها حيرتها سحرها واحتمالات لا تحصى، كلها تختفي. [ لقد أدرك أن اللحظة التي يعيشها لن تعود أبداً، فاجترار لحظات الحياة يفقدها نكهة الوجود، وما تخلو منه نكهة الوجود فهو غير موجود. لم يَضِع من مكانه، لكنه ضاع في حنينه لنكهة المكان والوجود، يشعر أنه ينقصه خفّةٌ أقلّ. فماضيه أثقل من أن يحمله فوقه من جديد، وحاضره أصغر من أن يكون والمستقبلُ ينتظره ليصبح ماضياً. لا لحظة حقيقية إلا الماضي، وما المستقبل المنتظر إلا ماضٍ مؤجّل ]. سيعرف كل الأيام القادمة لأنه يعرف ماضيها، وسيقال عنه ساحرٌ أو نبي. [ كل الأنبياء مثله، لو استطعت العودة كل مرة من جديد لفعلت ما لم يفعله أعظمهم ].

عند انتقاله الذي استغرق لحظةً، لم يرَ الله هناك. [ يعيش الناس لجنتهم أو لنارهم، وهي أيضاً طواحين هواء] . استغرقته اللحظة بين إغفاءة عين على السرير البارد، وبكائها على السرير ذاته، فلم يستطع أن يلمح الله هناك. [ إن فكرة الإله موجودة فقط في هذه اللحظة المقتطعة بين الحياة وتكرارها، بين اللحظة وعودتها، فإنّها أسرع من اللحظة وأخف من تكرارها ].

……..

لم يجبه الشرطي، لأنه عرف أن لا فائدة من الحديث معه، لم يفهمه ولن يزيد على تفاصيل حياته المتعبة تعباً آخر. أدار المذياع ليكسرَ الصمت من جديد. أطلّت بصوتها: “سنرجع يوماً إلى حيّنا ونغرق في دافئات المنى”.

يبتسم العائد وفي الابتسامة اختزالُ الحياةِ وعيشُها بعمقٍ لا مثيل له. لطالما أحبها، لكنه الآن يعرف أنها انتقامه من كذبة الحياة.

(كانون الأول 2007)

المحرر(ة): علاء حليحل

شارك(ي)

أرسل(ي) تعقيبًا

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

يمكنك استخدام أكواد HTML والخصائص التالية: <a href="" title=""> <abbr title=""> <acronym title=""> <b> <blockquote cite=""> <cite> <code> <del datetime=""> <em> <i> <q cite=""> <strike> <strong>