سَجِّل: أنا مصري..!/ أسعد موسى عَودة

خَبِّئ قصائدَك القديمةَ كلَّها / واكتُب لمِصْرَ اليومَ شعرًا مِثلَها (هشام الجَخّ)

سَجِّل: أنا مصري..!/ أسعد موسى عَودة

|أسعد موسى عَودة|

هكذا، إذًا، سجّل الشّعب المِصْريّ الكبير بأياديه البيضاء، وبإيقاعه الخاصّ، وبروحه الثّائرة الشّاعرة، وبأحرار تحريره وحَرائره، ميدانًا وفعلاً، ما وصفه الغريب قبل القريب، بالثّورة الأنبل والأعظم الّتي عرَفها التّاريخ؛ إنّها ثورة ضمير الشّعب والشّباب “عَ دَوْلِةِ العَوَچِيز”. إنّه الشّعب وإنّهم الشّباب، الّذين حرّروا مِصْرَ بِرُمَّتِها من الكَبْت المُحتقِن في مفاصلها، وأطلقوا عِفْرِيت المظالِم من قُمْقُمه، فخرج المارِدُ إلى الشّوارع. وهؤلاء الشّباب وهذا الشّعب – بمسلميه وأقباطه، وبكلّ فئاته وطبقاته – قد حقّقوا لمِصْرَ اليومَ، عَجِيبَتها الحقيقيّة؛ بأن جعلوا الهَرَمَ الهَرِمَ يقفُ على رأسه..! وقد قلبوا الطّاولة على كلّ دراسات وتخمينات وتقديرات ومَكِيدات أجهزة الاستخبارات، المحلّيّة منها والإقليميّة والدّوليّة، فبَهَروا الدّنيا.. وما في يدهم إلاّ الإرادة..!

كنّا – ومنذ البداية – قد تبنّينا مبدأ حُسن الظّنّ وراهنّا عليه، وأظنّه، اليومَ، كان الرِّهانَ الأوفَرَ حظًّا، دونَ غيرِه من رِهانات سوء الظّنّ، الّتي وصلت ببعض أصحابها إلى حدّ اعتبار البيان الأوّل والثّاني للمجلس الأعلى للقوّات المسلّحة، إيذانًا باضطلاع الجيش – عمّا قريب – بتكسير أيدي المتظاهرين المعتصمين وأرجلهم..! فقد رَحَلَ الزّعيم، قَسْرًا أو طَوْعًا.. نزولاً عند إرادة الشّعب هذه المرّة.. أو إرادة الجيش (أحد الجيوش الأقوى والأكثر مِهْنِيّة وانضباطيّة في العالم).. أو إرادة الغَرب.. أو إرادة بعضهم أو كلّهم.. لم تعُد هذه هي المسألة.. فإنّه قد رَحَل الزّعيم فحسْب، بما له وما عليه، وبمَن كان معه أو كان ضدّه.. لكنّه عن أرض مِصْرَ، قال إنّه لن يرحل.. وقد صَدّق القول بالعمل.. وهو ما سيُحسَب له، أبدًا، لا عليه..! وستحدّثنا الأيّام، عمّا قريب أو بعيد – ولربّما سيحدّثنا هو نفسُه في مذكِّراته، أيضًا – عمّا دار من وراء الكواليس، وفي الأروقة السّياسيّة والعسكريّة والاستخباراتيّة الضّيّقة، ستحدّثنا الأيّام، عاجلُها وآجلُها، “عَلِّي چَرَا” هناك، حيث لَفَظت دولة الفرعون أنفاسها الأخيرة..!

يُروى عن القائد الثّائر، الكوبيّ الأرجينتينيّ، إرْنِسْتُو تْشِي چِيڤارا، قولُه: إنّ الثّوّار الّذين يقفون في منتصف الطّريق (طريقهم الثّوريّ التّحرّريّ) يحفرون قبورهم بأيديهم. فأين هو مَوقِف (محلّ وقوف) ثوّار التّحرير؟ أظنّهم قد تجاوزوا الكثير، غير أنّه لا يزال أمامهم الكثير، أيضًا، نحو الاستقلال الحقّ؛ فذلك الاستقلال الحقّ عِمادُه قوّتان، هُما صِنْوانِ تَوْأمان: الحُرّيّة والِعلم! فمَن مَلَكَهما مَلَك استقلاله ومستقبله، ومَن ضيّع إحداهما مشى أعرَج، ومَن ضيّعهما، معًا، مَشّاهُ الآخرون..! فيا أيّها الأحرار ويا أيّتها الحرائر، وأنتم الآن تمشون بخُطًى وَئيدة (شديدة بطيئة متمهّلة) لكنّها واثقة أكيدة، نحو المَدَنِيّة ودولة الحرّيّة والأخلاق والعدْل الاجتماعيّ والتّنمية والنّماء والازدهار، في سَيرورة وصَيرورة حكم أنفسكم بأنفسكم (الدّيمُقْراطِيّة)، خُذوا بأسباب العِلم واملِكوا مفاتيحه، وخُذوا بقِيَم العمل والتّعامل المُتحضّرة، كما جاءت ثورتكم المُلهِمة الّتي علّمت العالَم درسًا حقيقيًّا في التّحضّر والحضارة والرّقيّ، وأحدِثوا نقلتكم النّوعيّة الإضافيّة الأخرى، من مجرّد مُستهلِكين إلى مُنتِجين، ومن مُعانِين إلى مُعِينين، ومن مُنقادين إلى أنْداد وقُوّاد، شاءَت أمريكا أو لم تَشَأ..! إذ يقول أڤْرام نُوعَم حُومْسْكِي (تْشُومْسْكِي)، عالم اللّسانيّات – اليهوديّ الأمريكيّ – الأبرز في العصر الحديث: “إنّ ما يُقلِق أمريكا ليس الإسلام المُتطرّف، بل نُزوع دوله إلى الاستقلال..”! فأمريكا (أمريكا الرّسميّة) الّتي تُصوِّر لنفسها وللنّاس أنّها تعلّمنا الدّيمقراطيّة والعدل، تسعى لتفصيل أيّ نظام على مَقاسها الخاصّ، في أيِّ زمانٍ ومكانٍ عَيْنِيَّيْن مُعطَيَيْن، وتدعم أيّ نظام في هذا العالَم، ما دام هذا الأخير – الأخير والمتخلّف، فعلاً – يخدم مصالحها، إلى أن تُقرّر – في يوم من الأيّام – إشعاله كعُود ثِقاب، أو إلى أن ينقلب السّحر على السّاحر، والحديث عن ذلك له بداية وليست له نهاية.

لقد بَرْهَنت الأيّام الأخيرة، لكلّ مَن كان قد شكّك أو هَزِئ في يوم من الأيّام، أنّ مِصْرَ هي “أمّ الدّنيا” بحقّ، أنّ مِصْرَ هِيَ مِصْر، كما رآها أبو زيد عبدُ الرّحمن بنُ محمّد بنِ خَلدون التُّونُسيّ، المفكّر والفيلسوف والعسكريّ ورجل الدّولة وواضع علم الاجتماع، قبل نحو ستِّمِائةِ عام، فقال: “هي جَنّة الدّنيا وحاضرةُ الجنس البشريّ وعِمادُ الإسلام..”! وقد كان يقصد، طبعًا، إسلام الإشراق الأخلاقيّ والعلميّ والحضاريّ الّذي نوّر العالم، وليس أيَّ إسلام آخَر اليوم، هو ليس من الإسلام في شيء..! لقد بَرْهَنت الأيّام الأخيرة، أنّ مِصْرَ قَلْبُ العالَم النّابض، ومركَزُ ثِقْلِه ومَفْصِلُ جهاته الأربع، طاقةً بشريّة هائلة، ورصيدًا علميًّا وحضاريًّا وتاريخيًّا؛ وشَريانَ حياة (قناة السّويس الّتي يمرّ منها أربعون بالمِائة من التّجارة العالميّة وغيرها من البوارج الحربيّة)، ومجالَ سيطرةٍ ومصالح ونفوذ، وأنّ بيدها – إن أرادت – أن تزلزل هذا العالمَ.


شيءٌ عن الغَرب..!

يضطلع الغَرب اليوم، كغيره من شعوب جهات العالم الأخرى من قَبل، بأسباب التّقدّم والرّقيّ، وهو ما لا يُمكن لأحد أن يُنكره عليه، لكنّنا نُنكر عليه، يقينًا، محاولة احتكاره “مِنصّات الضّمير العالميّ”، وحرصه المزعوم على مصالح الشّعوب؛ ذلك الغَرب (الغرَب الرّسميّ) الّذي زَيَّت عَجَلات ثورته الصّناعيّة بدماء الشّعوب المُستضعَفة، ونهَب خيراتِ بلادهم، وجوّعهم وجهّلهم وأثكَلهم ويتّمهم وشَرّد مَن شَرّد منهم، وأباد مَن أباد واستعبَد مَن استعبَد، ولا يزال يفعل، وإن بدّل قُفّازاته، بين الحِين والحِين. فَلْنَتَعلّم من هذا الغَرب اليوم – كما تعلّم هو منّا بالأمس – وقاحة العِلم لا وقاحة الدّم، وصَلاحَ التّعامُل وإتقانَ العَمَل، فَلْنَتَعلّمْ منه.. ولْنَتَجَاوَزْه.. ولْنَحْذَرْه.. فإنّه يعرف كيف يُبدّل جلده وكيف يدُسّ السّمّ في الدّسم؛ أَلَم يقُل لنا عنترةُ بنُ عمرو بنِ شدّاد العبسيّ، قبل نحو ألفٍ وخمسِمِائة عام:

إنّ الأفاعي وإن لانَتْ ملامسُها     عندَ التّقلُّبِ في أنيابِها العَطَبُ؟! (العَطَب: الهَلاك)


وفي الحلْقة القادمة..

سنتابع حديثنا في الحلْقة القادمة – إن شاء الله – عن پروتوكولات آيات قُمّ.. عن مشاريع تفتيت العالم العربيّ والإسلاميّ.. عن مشهدنا الإعلاميّ.. وحديثنا، أبدًا، عن لغتنا ونَحْن.

(الكبابير/ حيفا؛ الكاتب دارس عاشق للّغة العربيّة، مترجم ومحرّر لغويّ)

 

المحرر(ة): علاء حليحل

شارك(ي)

أرسل(ي) تعقيبًا

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

يمكنك استخدام أكواد HTML والخصائص التالية: <a href="" title=""> <abbr title=""> <acronym title=""> <b> <blockquote cite=""> <cite> <code> <del datetime=""> <em> <i> <q cite=""> <strike> <strong>