صندوق المرضى/ راجي بطحيش

كنت أتلوى في البيت من أوجاع البطن والخاصرة والصّدر ثم أشقّ الطريق من بيتنا في حي اسبنيولي القريب إلى ديانا ونصعد نفس درجات السمسم والزعتر ثم أشاهد الممرضة المخيفة بنظارات كعب القنينة وأسأل نفسي: لماذا أعيش؟

صندوق المرضى/ راجي بطحيش

|راجي بطحيش|

raji-qadita

1

كانت أمي تصحبني كل مرة من جديد إلى صندوق المرضى في ديانا في الشارع الذي اكتشفت لاحقا أنّ اسمه “الوادي الجوّاني” (لا أعرف من أطلق هذا الاسم عليه). أما رائحة الكعك بسمسم عند مطلع الدرج فكانت كأنها تبكي على “العرب المتدحرجين من الأندلس”.

2

كانت أمي تصحبني إلى صندوق المرضى في ديانا كلّ مرة من جديد؛ كنا ندخل هناك متجاوزين رائحة الكعك آنف الذكر ورائحة الزعتر الغريب. لم أفهم أبدًا لماذا يختلف الزعتر الذي يُباع مع الكعكة الحلقية المُسَمسمة عن ذاك المتوفر في البيت (كنت مدمنا على الزعتر والبطاطا المقلية). فزعتر صندوق المرضى دقيق وناعم جدًا ومليء بالملح ولونه بني فاتح أشبه بالخراء.

3

كانت أمي تصحبني إلى صندوق المرضى في ديانا كل مرة من جديد، مع أننا كنا نخرج من هناك من دون إجابة. في كل مرة مع ذات الإجابة المعدومة أنفاسها. كنت أتلوى في البيت من أوجاع البطن والخاصرة والصّدر ثم أشقّ الطريق من بيتنا في حي اسبنيولي القريب إلى ديانا ونصعد نفس درجات السمسم والزعتر ثم أشاهد الممرضة المخيفة بنظارات كعب القنينة وأسأل نفسي: لماذا أعيش؟ ثم أتذكر أنّ ثمة حلقة مُعادة من “حارة أبو عواد” بطولة نجمتي المفضلة آنذاك عبير عيسى… مع أننا كنا نخرج من هناك من دون إجابة. وهذا ما يسمونه في قواميس أيامنا هذه “العجز”. وفي تلك الأيام بداية “الكفر”.

4

العجز وأبو عواد وعبير عيسى وحمام الهنا و”بربار نحماد” و”بيت فيستوك”…عن أي عجز أتحدث؟ كنت أصاب بالحمى* والآلام المبرحة كلّ أسبوعين ونصف الأسبوع، وكنت أستيقظ باكرا مع الوجع فيقرّر والداي أنني سأبقى في البيت ذلك اليوم أيضًا. ولم يكونوا بحاجة لكثير من المبررات لذلك؛ فقد كنت أتوجع بحق. كنت أتناول الحليب وقرشلة حماد ثم أتقيأهما مجبولين ببعضهما البعض ثم أقضم خبزًا عربيًا وجبنة صفراء وأتقيأهما هما أيضا ثم ينتهي كل شيء عند حافة الزيت والزعتر والخبز الإفرنجي المحمص. ثم تلك النزهة اليومية مع الكلب المتخيل إلى صندوق المرضى حيث السمسم والزعتر والممرضة المرعبة، مع أننا كنا نخرج من هناك دون إجابة.عن أي عجز أتحدث؟

5

مع أنني كنت أكره المدرسة كرهًا أسودَ لا زال يطاردني في الأحلام حتى الآن، إلا أنّ الشعور بأنني في عزّ الظهيرة كنت أطارد مع أمي ذلك الكائن الذي يُدعى “لا إجابة”، شكّل جانبا من منظومة مخاوفي المتشابكة. قرب سريري لا يوجد أولاد فهم في المدرسة؛ في نزلة إدمون شحادة لا يوجد أولاد لأنهم في المدرسة؛ في بولس السادس لا أولاد فهم في المدرسة؛ في الوادي الجوّاني لا أولاد لأنهم وراء أسوار المدرسة الإعدادية الجماهيرية الديمقراطية على أطراف الشارع؛ فهم في المدرسة وأنت لا. ولكنك تكره المدرسة- تكرهها كره “العمى” وتنتظر أن تكبر وتصبح كاتبًا مشهورًا يعيش في المدينة الكبرى ويضاجع كل شيء حوله ويسافر ويسكر ويسهر ويلبس ويأكل السّوشي والتاباس ويعرف الفرق بين البيسترو والبراسيري. إذًا لماذا هذا الشعور الجارف بالعجز؟ أكره الكحول أيضًا.

6

العجز؛ وما هو العجز؟ أهو ذلك الشعور بالإقصاء؟ جميع الأولاد في المدرسة وأنا عند درج السمسم والزعتر مع أنني أكره المدرسة. أم هو ذلك الشعور بالخيبة من العيش؟ بمعنى آخر: عندما كنا نخرج من هناك دون إجابة…

7

صرت أصطحب أمي كل ظهيرة أحد إلى صندوق المرضى ذاته بعد مئة سنة، بعد أن أصبح الباب كهربائيًا. غاب بائع الكعك بسمسم عن دوامه الزعتريّ اليوم. يوم قائظ في قلب الشتاء. أنتظر المطر في عربتي الفارهة. أراقب عبر الزجاج. يدخل الناس الذين غادرتهم ثم يعودون بعدها من دون تعابير دراماتيكية تذكر. لا يخرج أحد من صندوق المرضى وهو ثائر أو يبكي أو يلطم أو يلقي بنفسه تحت عجلات باص البلد الأبيض والأخضر. هذه المرأة مقيمة في كوخ ديلوكس في صندوق المرضى منذ مئات السّنين وهذا الرجل.. لا غير معقول؛ لماذا تغير إلى هذا الحد؟ إنه زميلي من مقاعد الدراسة الابتدائية (هذا عندما كنت أذهب أصلا) أصبح بشعر أبيض خفيف جدًا وبدن هزيل بكرش لا تنتمي أبدًا للجسد المعلقة عليه. معصم نحيل، بنطلون جينز مهترئ، قميص “بولو” مزيف لم يغسل منذ دهور، صندل مقشر، عيون ميتة؛ كان لا يغيب أبدًا عن المدرسة. يصعد صاحب الصندل الدرج، لا يبحث عن بائع السّمسم والزعتر. تبتلعه الأبواب الكهربائية. يدخل الناس ويخرجون بلا إجابات. هذا ما كنت أهرب منه منذ دهر. أفتح باب عربتي. أخرج منها. لقد أصبحت قريبًا جدًا!


(*ملاحظة: مع نهاية مرحلة المراهقة شخص الأطباء الحالة على انها “حمى البحر الأبيض المتوسط” المعروفة ب-FMF.)

المحرر(ة): علاء حليحل

شارك(ي)

1 تعقيب

  1. “هكذا أَتحايل : نرسيس ليس جميلاً
    كما ظنّ . لكن صُنَّاعَهُ
    ورَّطوهُ بمرآته . فأطال تأمُّلَهُ
    في الهواء المقَطَّر بالماء …
    لو كان في وسعه أن يرى غيره
    لأحبَّ فتاةً تحملق فيه ،
    وتنسى الأيائل تركض بين الزنابق والأقحوان …
    ولو كان أَذكى قليلاً
    لحطَّم مرآتَهُ
    ورأى كم هو الآخرون …
    ولو كان حُرّاً لما صار أُسطورةً …”

    اليك يا راجي …….ريم

أرسل(ي) تعقيبًا

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

يمكنك استخدام أكواد HTML والخصائص التالية: <a href="" title=""> <abbr title=""> <acronym title=""> <b> <blockquote cite=""> <cite> <code> <del datetime=""> <em> <i> <q cite=""> <strike> <strong>