قراءة أولى في مُسوّدة “إلوهيم”!/ نصر جميل شعث

| نصر جميل شعث| هناك من الأعمال ما إن تلتقي بها عينٌ قا […]

قراءة أولى في مُسوّدة “إلوهيم”!/ نصر جميل شعث

| نصر جميل شعث|

هناك من الأعمال ما إن تلتقي بها عينٌ قارئة حتى تشقّ طريقها إلى الوعي بسؤال سيتردّد في أفق القراءة الصامتة. لنعرف، في الحال، أنّه سؤال مفصليّ يدور إدارته السريعة كمفتاح به تُؤسِّس الاستجابةُ دخولاً مكتوباً يجيبُ على هذا السؤال التي يتردّد في الأفق المُعيّن: لماذا أُحالُ، الآن، وأنا أقرأ في نسخة إلكترونية من مجموعة شعرية تتلمّس طريق الطباعة بعنوان “إلوهيم”، إلى سيغموند فرويد- وتحديداً إلى كتابه “موسى والتوحيد”؟!

ولكن قبل الدخول عميقاً أنوّه، في ضوء حساسية الكتابة عن مسوّدة، أنّ مقالي الإستباقيّ هذا هو نتاج قراءةٍ أولى في مُسوّدة أولى أؤجّل معَها إمكانية تدّخل النقد التكويني الذي يحيا، بدوره، على وجود احتمالات دائمة للتغيير على المُسوّدة؛ تغييراً قد يجري على العنوان وفي المتن إضافة أو حذفاً، عوضاً عن إعادة ترتيب مُحتملة لبعض القصائد. إذاً، سأعتبر هذا المقال ناقصاً، أيضاً، بوصفه مُسوّدةً أولى سيستغرقها التعديل والتشّعب والتوّسع.

بدا لي، كردّ فعل أوّل، ومبرّر لوهلة أولى، أنّ عنوان هذه النسخة الذي يقترحه الشاعر الفلسطيني أحمد الأشقر المقيم في مدينة طولكرم الواقعة إلى شمال غرب الضفة الفلسطينية؛ يثير كثيراً من المخاوف المباشرة المتعلّقة بسطوة المحمولات الدينية والسياسية في المتون. لكنّ ردَّات فعلٍ بطيئةً راحت تُبدّد تلك المخاوف، مع تفحّص وضع الاستدراج والخطاب المتّجه للأشياء وسيادة الوصف الجماعيّ المرتبط، في قسط كبير من قصائد المُسوّدة المنهمكة بتوظيف الآلهة المتعدّدة في الأساطير والديانات القديمة، بما يشير إلى موقف نقدي من شاعر جريء يّتجه إلى –ليخرجَ على- العلاقة العائدة، في أنا الفرد وجوقة الجماعة والأشياء والقرابات المكرّسة، إلى نمط أو دافع طفولي تطلّب، في البدء، أباً أو إلهاً؛ فأبدع وابتدع الأنا الجمعي الأساطيرَ والدين.

وهكذا تتجاور وتتكرّر وتتوزّع أسماء آلهة كثيرة، في مسوّدة الأشقر، وسط احتدام طفوليّ لا يُجهز على جماليات الشعر وموضوعات العمل التي يمكنني إشهارُها بواقع شعبتين شائكتين، تجسدان مقصّاً، وهما تمتّان إلى صيحة للاانتماء بالمعنى الوجودي الفردي الانفعالي المبالغ في قطع الصلات والتعذيب والإنكار، على نحو نزق وضاجّ:

شعبة ضدّ ما يحدث باسم الله والدين، وشعبة مزدوجة منقسمة، لكن يحكمها وضعُ الإرتباط بالفلسفة الأبيقورية بفعل الشوك (اللذة والألم: الإحساس، بالأحرى)، حيث مواعيد الغزل والقتل بين يدي المرأة أو المومس المقدّسة المنظورة، داخل حانة، في “مرآة عمياء”.. حيث ينفي الشاعر مهلوساً في حمّى الوجع، ليؤّكدَ أنّه يُبصر فيها وجهَه الموحش، غير المشذّب ولا المصقول. مثلما ينفي أن تكون له مرجعياتٌ وقرابات مكرّسة وخاضعة للاختيار، كالأب والأخوة الأشقياء. فهنا في قصيدة بعنوان: “في الحانة”، يتّوجّه صاحبُ المسوّدة الأشقر للحانة كبعد سُفليّ لا يخلو فضاؤه من حراك جدليّ استشهاديّ غزلي مأسوي مصاغ بجماليات التناقض والحساسية الشعرية المتمخضة عن الحضور البالغ لثنائية الرهافة والقسوة متجسدة بأفعال الحساسين الرقيقة ضدّ عاشق مسيحيّ المصير في حالته هذه الرهيفة:

“في الحانةِ

تغتالني الحساسينُ مرهفاً بينَ يديك

أنت: سلةُ الربّ في أياديِ الأطفال

ملآى بما يشتهونَ من سكرٍ وورد

أنا:

حمى الوجعِ المشتهىْ من سلةِ الكآبة…

في الحانة

مرآة عمياءٌ

لا أُبصرُ فيها وجهيَ الموحش

ليسَ لي أبٌ هناكَ

ولا أخوة أشقياء”.

ولتشعيب القراءة في المسوّدة الصادمة، منذ تلقي عنوانها، حيث يكتب الشاعر الثلاثيني أحمد الأشقر قصائدَه في مكان إشكالي بالمعنى الميثولوجي والديني والوجودي والسياسي هو “الضفة الفلسطينية” الواقعة Tإلى الغرب من نهر الأردن، والتي يطلق عليها اليهود اسم “يهودا والسامرة”، سأذهب إلى أطروحة فرويد النقدية الجريئة لروايات الدين اليهودي التي تعامل معها فرويد كمسوّدة تاريخية قابلة للطعن والدكّ لانطواء رواياتها ووقائعها على تلفيق وتزوير وتناقض هرطوقي برّر الإجرام وكرّسه. وكلها أحداث خضعت لتشريح هذا العجوز اليهودي بأدوات تحليل وتأويل عرّت القداسة المكرّسة، بشكل مذهل يكاد يمسّ القارئ بقناعة أو هزّة بسبب ذلك التفريق التمحيصي والتفنيدي الذي أجراه فرويد بين “موسى المصري” الذي يدين بالتوحيد للإله المصري “آتون”، و”موسى المدياني” الذي ابتدعه اليهود بعد خروجهم من مصر وجعلوه تابعاً لإله جديد أسموه “يهوه”.

فمن المعلوم، والكلام لفرويد، أن تفسير التوراة يقرّ بأنّ لـ “الأسفار الستة” مصدرين يرمز إليهما حرفا “ي” و “إ”. أي الحرفان الأولان من الإسم المقدّس لكلّ من “يهوه” و “إيلوهيم”. “إيلوهيم” وليس “أدوناي”. بما يشير إلى اختلاف الآلهة اليهودية. ويذكر فرويد في كتابه، أنّ قانون الإيمان اليهودي، كما هو معلوم، يقول: Sehema jisroel Adonai Elohenu Adonai Echod. وإذا لم يكن من قبيل المصادفة، والكلام لفرويد أيضًا، أنّ اسم “آتون” المصري يذّكّرنا باللفظة العبرية “أدوناي”، وبالإسم الإلهي السوري “أدونيس”، وإذا كان هذا التشابه نتيجة لتمائل بدائي في المعنى واللغة، فإن بمستطاعنا ترجمة العبارة اليهودية على هذا النحو: “أصغي يا اسرائيل! إن إلهنا آتون (Adonai)  هو الإله الأوحد”. (موسى والتوحيد، ترجمة جورج طرابيشي، دار الطليعةـ بيروت، ط 4، ص54)

هناك المؤرخون المحدثون، ويضع فرويد على رأسهم ماير، يتفقون مع التوراة في نقطة أساسية، فهم يقرّون بأن القبائل اليهودية التي ألفت لاحقاً شعب إسرائيل، اعتنقت في حقبة معينة ديانة جديدة. ولكن هذا الحدث لم يقع في مصر، ولا عند سفح جبل في شبه جزيرة سيناء، وإنما في موضع يدعى “مريبة قادش”، وهو واحة معروفة بغزارة ينابيعها وعيونها، تقع جنوب فلسطين بين الطرف الشرقي لشبه جزيرة سيناء والطرف الغربي لشبه الجزيرة العربية. وقد اعتنق اليهود فيها عبادة إله يدعى “يَهْوَه” بعد اقتباسها، في أرجح الظنّ، من قبيلة المديانيين العربية المجاورة. وكان “يهوه” إله براكين، فصورة هذا الإله الجديد عند اليهود أنه شيطان مشؤوم دموي يَجوس ليلاً ويخشى ضوء النهار” (المصدر السابق، ص46).

ويرى فرويد أن “ي” اليهودي هو الذي يعدّ أقدم المصادر، وهو الذي تعرّف فيه عدد من الباحثين المحدثين على الكاهن (إبياثار)، المعاصر للملك داود. وبعد ذلك بقليل، وفي زمن ما أمكن تحديده، يأتي الإيلوهي المزعوم الذي ينتمي إلى شمالي المملكة. وبعد دمار هذه المملكة جمع كاهن يهودي أجزاء من “ي” و “إ” مضيفاً إليها بعض الإضافات. وتلفيقه هذا ما يشار ليه بالحرفين “ي إ” (المصدر السابق، 57).

وفي ضوء ما سبق تمكن، إذاً، قراءة أوّل قصيدة من مجموعة الأشقر بعنوان “أشياء”:

“في بابِ المغاربة

تجلسُ الآلهةُ

تأكلُ البرقوقَ

وتغني للمحرقة

والطفلُ الذي يرسمُ نجمةَ داود على جبينِهِ

يحملُ بندقيةً على حافةٍ النهر

ويغني للسلام

ويهدي الأطفالَ في السامرة

قنبلةً موقوتةً

وثقباً في الرأس..

في بابِ المغاربة

تنبشُ الألهةُ القبورَ

وتقرعُ كل طبول الحرب

وتكنسُ جماجمَ الأطفالِ المتحجرة

من طريقِ العابرينَ إلى الهيكل

وحشودُ المؤمنينَ الغزاةِ  تهتفُ:

إلوهيمْ

إلوهيمْ

في هذا الكون

ثمة أشياء لا يراها إلا الله!”

فالأشياء جميعها في علاقة إشكالية وجدلية تقود الرأس الساخرة لتضعَ -في مضمار ردود فعل المعذبين في الأرض- هذه الأرضَ، بكلّ أشيائها وارتباطاتها بالمقدسات، في مرحلة طفولية درامية عبثية وحائرة وساخرة ومأسوية، من حيث إفاضة الدمّ على جدلياتها وصراعاتها، حيث انفعال الأضداد واستنزافهم في هذه البقعة المقدّسة، أطفالاً وكباراً، فرادى وجماعات، في البحث عن سيادة الحماية، والدفاع عن السيادة. فمن قصيدة بعنوان “أبحث” نقرأ أحمد الأشقر بوصفه إنساناً فلسطينياً مخلوعاً وعنيداً يبحث عن حماية وسيادة:

“إذن دعيني

طفلكِ المخدوعَ فيكِ

وكافراً

ثملاً

عنيداً

في مساءاتٍ أُعاقرها فتنحرني.”

وأيضاً في قصيدة بعنوان “جدلية” نقرأ “أنا…. أنتِ جدليةُ كفـــرٍ وفضيـلة”.

ليس هذا وحسب، بل تتطوّر الجرأة في هذا المقام المفتوح على السقوط والموت في الأسطورة والواقع المأسوي، لتتصادى مع مقولة “موت الإله” النيشويه، في ضوء سطوة حضور إله بابل “مردوك” وسقوطه.. مثلما نقرأ في هذا المقطع:

“خارطةُ الدم

في الطريقِ إلى رام الله

يسقطُ مردوك من السماء

ليعيدَ تشكيلَ الخليقةِ من جديد

بقبعاتٍ صغيرةٍ على الرؤوس

وبنادق تفجِّر الرؤوس

ها هو الآن

يرسمُ خارطةَ العالمِ بالدَّم

ويكتبُ على سورِ بابلَ القديمة

“هنا مات الربّ”!”

في قصائد أحمد الأشقر قدر وفير من النقمة والتنكيل والغضب الجذري الذي يتصاعد ويعود ليقع على الحاضر والماضي معاً. غضب ينمو، في شكل واضح، داخل بعض قصائد تميل، كما أشرتُ في الشعبة المزدوجة والمنقسمة أعلاه، إلى المرأة بحسّها الغزلي والسلبي في آن. وقصائد تنطوي على نزعة كلبية. فيذهب أحمد الأشقر، لاسيما في قصيدة بعنوان “خمس رسائل إلى صديق وطني”، تماماً، عكس ما يقوله فرويد، أيضاً، في كتابه “موسى والتوحيد” من “أنّ للعصور النائيات على المخيّلة سِحراً أخاذاً غامضاً.. فما أن يدبّ الإستياء في الناس من الحاضر، وهذا كثير الوقوع، حتى يلتفتوا إلى الماضي آملين أن يلتفوا فيه على جديد بحلُمهم، الذي لم يغب عنهم قط، بعصر ذهبي..” وكان يشير فرويد بهذا المعنى في الحاشية، إلى “قصائد روما القديمة” لماكولي، فهي تصوّر شاعراً مطرباً خيبت أملَه صراعاتُ عصره السياسية العنيفة، فالتفتَ يتغنّى بروح التضحية عند الأسلاف وباتحادهم ووطنيتهم!

في هذه الجبهة الفكرية والنقدية الخطيرة التي تتحلّق حولها قصائد مسوّدة “ألوهيم”، تعمل السخرية كمقيّد وكمحرّر معا؛ فتظلّ (السخرية) على امتدد المجموعة تحايث الأماكن المقدسة والأشياء المختومة بوخزات على الرأس بوصفها، هذه المرّة، هي الجزء العالي حامل العقل الذي يهزّ الروايات المفبركة عن “ألوهيم” و” يهوه”.

ولا تُخلِّص الرأسُ عقلَها بالتعالي خلال رفع الأشياء وانتشالها من يقين فاسد، بل تقوم بفعل الاستدراج الجماعي الرعوي إلى سفوح الجبال. فهنا إحالة مفتوحة القناة بين الرأس المُخلخِل و”ألوهيم” الذي غيره اليهود بـ “يهوه”، ويدحرجه الشاعر إلى الأفقي ليكون ماّدة أرضية متورطة بتدرّجات وتناقضات التضاريس وتقلّبات المناخ الدنيوي. حيث تُرتسم، في رأس الشاعر، صورة أسطورية تُفكّر بالصوت العالي، أي بالطرْق على الرأس الطفولي الجمعي، لتجفيف المنابع من دمها وتأكيد حياة الأرض هناك في قصيدة بعنوان “حظائر النار” حيث يَضرب الشاعر أحمد الأشقر رأس غيمة بمطرقته مستحضراً، في سياق تناصّ الفكرة مع أسطورة بعيدة النشأة من أساطير الغرب هذه المرّة. إنه يعرّف في حاشية من حواشيه “تور” بأنه اسم إله اعتقد قدماء الشماليين النرويجيين أنه يحمل مطرقة ويضرب بها الغيم ليسقط المطر.


المحرر(ة): علاء حليحل

شارك(ي)

2 تعقيبات

  1. هذه ليست مشكلتي يا “شعبي” لا تلومني بطولك وبعرضك وتفكيرك وشهاداتك.
    أنا قدمت قراءة مشتركة في ديوان شعر وكتاب نقدي من الطراز الخطير أتمنى أن يكون تفكيرك مرّ عليه. أو عليك أن تبحث وتقرأ ماذا يقول كتاب “موسى والتوحيد” على الأقل إن لم ترغب في قراءة الشعر الذي قرأته في ضوء كتاب فرويد!

  2. يا اخي اكتبوا بلغة الناس حتى يفهموا عليكو
    ولك طولي وعرضي وتفكيري وعلمي وشهادتي ما خلوني افهم شو بدك من هيك مقال ، شو يقولوا اللي بحياتهن ما قرأوا؟
    الكاتب لازم يكتب لجميع الناس مش لزمرة 4-5 عايشين بين الكتب بمكتبات الجامعة؟
    اكتبوا للشعب تنهضوه ! لاتكتبوا للفضاء وللنخبة !

أرسل(ي) تعقيبًا

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

يمكنك استخدام أكواد HTML والخصائص التالية: <a href="" title=""> <abbr title=""> <acronym title=""> <b> <blockquote cite=""> <cite> <code> <del datetime=""> <em> <i> <q cite=""> <strike> <strong>