كانت تقول لي/ نسرين غنيمة

|نسرين غنيمة| أجمل ما فيها أنها تجعلني أبتسم، رغم أنني […]

كانت تقول لي/ نسرين غنيمة

|نسرين غنيمة|


نسرين غنيمة

أجمل ما فيها أنها تجعلني أبتسم، رغم أنني أفتقدها، وأفتقد وجودها، كهالة من البركة كانت تملأ عليّ فراغي؛ اللمعة في عينيها قادتني إلى الجنون أكثر من أنها أخذتني إلى سلامي، أو أنني لم أكن أعرف أنّ جنوني هو سلامي أصلاً.

عرفتها يوم دخلت مكتبة صديقي رائد في بلدتنا. كانت تقف، لا بل كانت جالسة في زاوية القراءة؛ لم أرَ منها سوى شعرها وركبتيْها، وهي ترجف. حينها سمحت لنفسي بأن أقرّر أنها ترجف، فيما بعد اكتشفت أنها أنهت الرواية ذلك الصباح شوقا لتعرف ما يحصل بالنهاية. عندما اقتربت لم أخطط لكلّ الذي حلّ بي بعدها. لا أذكر التفاصيل لكني أعيش حالة الإغماء ثانية؛ ترجف أصابعي وتبتلّ الورقة تحتها، أبتلع ريقي، فأترك كلّ شيء وأتوجّه للمطبخ علّ بعض الماء يكون خيرًا من السفر إلى هذا الوراء.

كانت تحبّ الأعياد، وأنا كنت منشغلاً أكثر بكتابة نتائج بحثي لنيل شهادة الدكتوراة. جاملتها مرة أو مرتين خلال السنين الخمس التي قضيتها لجانبها، غائبًا. بإمكاني أن اعترف اليوم أنّ قليلاً من الندم يزحف بين شعري الأبيض ويديّ الباردتين. ربما أحببت أنا أيضًا الأعياد وجعلتها تحتفل بدلا مني، لكنني لا زلت أذكر عيدها الأخير بوضوح. اشتريت لها معطفًا أحمرَ ولم أحتمل الانتظار حتى تعود إلى البيت. فاجأتها في مكان عملها، فلما رأتني من شباكها الزجاجي، ركضت من بين زملائها واحتضنتني. بكت فرحًا. لسخافتي ظننتها تبكي بسبب المعطف، لكنها في الحقيقة كانت تبكي لأنني تذكرت عيد ميلادها، أخيرًا.

كلما يشتدّ المطر أتذكّرها؛ أنا أبحث عن مناسبات لأتذكرها. أربط بين حلول الشتاء وصورها، بين الأعياد وابتسامتها، بين الصباح وعينيها البريئتين، بين حزني وغيابها. لم أسمح يومًا بأن تغيب. تغلبت على نفسي وأدمنتها، إلا أنني آدميّ عاديّ فارقتها على غفلة، في لحظة قصيرة تأخرت عقارب الساعة فلم تتقدم نحو الثانية السابعة والعشرين، فانقلبت الدقائق والحقائق على رأسي وانقضت.

كانت تقول لي قبل أن يصيبها المرض إنّ الحياة هديتنا الصغيرة، بحجم قلوبنا، علينا ان نعتني بها فتكبر معنا، لا نفتحها قبل موعدها لئلا تتركنا قبل موعدها. هنائي بين حاجبها والخدّ، وفي فمها كلّ رواياتي، فعندما تنتهي من قصّ حكاياها كنت أقول “أحبكِ” فتقفز قفزتين كلهما سعادة وتذهب إلى أشيائها، بعدما خانتها هديتها، صارت تقول لي إنّ الحياة صفة وأسماء نطلقها على حبنا الأكبر؛ “أنت حياتي”، وصراعي بين العصف بها في ساحة البيت لأوقف زحف الغد وبين العصف بها بين ضلوعي كان ينتهي بـ “إرتاحي الآن حبيبتي، لا تجهدي نفسك بالكلام”. يا لغبائي؛ لماذا لم أجهد نفسي أنا بالكلام وقلت لها ما كلّفني أكتبه لأحد عشر عامًا؟

اليوم، تجتمع كل ملامحها: المطر حاضر والعيد حاضر؛ الصباح حاضر وحزني الذي لا يروح، حاضر أيضًا. كلّنا هنا نفتقدها، وأشتاق إليّ. تلك الصورة القديمة في المرآة التي لا تشيخ، لا تتركيني، أتيت بآلاف المعاطف وكل الأعياد التي أصبحت لا أنساها، إليكِ، صدقيني، أنا بانتظارك كما في موعدنا الأول، في الساعة الخامسة عصرًا بجانب مكتبة صديقي رائد، أحمل باقة ورد ومنطادًا عليه اسمك، عشرون أمنية على صدري، أن تكوني بالعام الجديد هنا، ونكون سويًة بألف خير.


المحرر(ة): علاء حليحل

شارك(ي)

6 تعقيبات

  1. مبدعه,مقال اكثر من رائع,

  2. رائعه…مبدعه…وصورك لا تنتهي ن راسك وراسنا…كلي فخر بكتاباتك المميزه
    ولا تتاخري علينا بكمان ابداعات

  3. نسيج ابداعي مؤثر جدا, رائعة مثلما عودتينا دائما.
    كل الاحترام والفخر يختي ….

  4. رائع!

  5. أجمل ما في المقال صورة كاتبته

أرسل(ي) تعقيبًا

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

يمكنك استخدام أكواد HTML والخصائص التالية: <a href="" title=""> <abbr title=""> <acronym title=""> <b> <blockquote cite=""> <cite> <code> <del datetime=""> <em> <i> <q cite=""> <strike> <strong>