كيف أحتفل بالحرية؟/ أحمد مجدي همام

|أحمد مجدي همام| ماذا أكتب؟ أفكر بعمق، على موسيقى نشيد […]

كيف أحتفل بالحرية؟/ أحمد مجدي همام

|أحمد مجدي همام|


أحمد مجدي همام

ماذا أكتب؟

أفكر بعمق، على موسيقى نشيد بلادي، وعلى الأهازيج التي رجت سماء الأقطار العربية..

ماذا سأكتب بقلمي؟ وهل سيُقرَأ ما سأكتبه بعدما كتب الشهداء المصريون بدمائهم أغنية الحرية واحتلت كتاباتهم قوائم الـ (بست سيلر)؟

ماذا سأكتب لك يا مصر؟ هل أفاخر بمصريتي وعروبتي؟ أم ربما يجب علي أن أشكر تونس أولا؟ أم أعزي ذوي الشهداء؟ أو ربما علي أن أنظِّر للحقبة القادمة والحريات المتوقعة والدولة المدنية التي ستبنى على دماء شهداء ثورة الغضب المصرية؟ هل أتحدث عن المكالمات العشوائية التي وردتني من أردنيين ويمنيين وتوانسة كانوا يدعمون ثورة 25 يناير بأن يتصلوا بأرقام عشوائية في مصر موقنين بأنّ الرقم المطلوب هو قطعا لواحد من ال 85 مليون ثائر في بر المحروسة؟ أو ربما يُفضّل أن أسترجع محطات ثورتنا، بداية من يوم الغضب 25 يناير، ثم جمعة الشهداء 28 يناير، والمسيرة المليونية الأولى 31 يناير وأتساءل كيف ابتكرت الثورة منهجها؟ كيف ابتدع الوعي الجمعي –المعروف بتدني مستوى ذكائه– كل تلك الأيام والمحطات بذكاء يستحق أن يمنح جائزة نوبل في الحرية، حتى إذا ما جاءت جمعة الرحيل 4 فبراير، لم تيأس الثورة من تأخر سقوط الصنم المصري، لم ييأس المصريون ولم يغفروا لقاتلي ورد الجناين، لقاتلي شباب مصر، فابتدع ميدان التحرير –مخّ الثورة– مُسمّى أسبوع الصمود، والذي شهد بدوره عدة مسيرات مليونية، وشهد حالة تفاقم لذكاء الوعي الجمعي للثوار، ذاك الذكاء الرابض في مخ الثورة، في ميدان التحرير.. ميدان الشهداء.. ميدان الحرية.. فتمدّدت الثورة ووصلت لمبنى البرلمان بشارع القصر العيني، ثم امتدت ووصلت إلى مبنى الإذاعة والتلفزيون ماسبيرو، وبلغ الذكاء الجمعي أوج حماه بوصول عشرات الآلاف إلى قصر العروبة معلنين بغضب مصر كلها؛ غضب احتشد في دواخلنا طيلة ثلاثين عاما من القهر والذلّ والتراجع.. أن مبارك يجب أن يرحل، قاتل أهلنا يجب أن يرحل، سالب حقوقنا والرجل الذي انكمشت في عهده مصر عربيًا وإقليميًا وحتى داخليًا حتى كادت تهوي تماما.. سيرحل!

هكذا نحتت الثورة تعاريجها في وجه الظلم اليابس، وشقت لنفسها ألف رافد اندمجوا جميعا في نهر واحد.. إذ  طفح الغضب بالناس، فأعلنوها حاسمة، بأنّ الجمعة 11 فبراير، هو “يوم القيامة”، حتى برغم الخطاب المحبط الذي ألقاه الرئيس (المخلوع) قبلها بيوم مُعلنا تمسّكه بالبقاء حتى نهاية ولايته في سبتمبر المقبل.

اِنقلب فرانكشتاين على سيده (هُبَل)- هذه هي القاعدة. الثورة امتدت لتصبح عصيانا مدنيا شبه مكتمل، إضرابات واعتصامات ومظاهرات تعمّ الجهات الأربع في القطر المصري في ظلّ اختباء تامّ لأفراد عسس السلطان المخلوع، الشرطة التي عاشت كـ (بُعبُع) حقيقي للشعب المصري، والتي بدأت تظهر على استحياء بينما نظرة الانكسار بادية في مآقيهم.

ربما نجح الرئيس بعد خطابه الثاني في شقّ الشارع المصري، الأجيال الكبيرة تحديدا، بخطابه الذي حمل عنوانا وحيدا “الابتزاز العاطفي الرخيص”. سمعنا كلمات التسامح الصادرة من الشعب المصري العاطفي بامتياز، عن الطيار صاحب الضربة الجوية الذي طلب أن يعيش ويقبر في أرض مصر. كان الشباب على وشك الجنون عندما علت الحناجر مطالبة بمنح فرصة للنظام الذي استهلك 30 عامًا من أعمارنا ليصل لحقيقة زين العابدين بن علي التاريخية (فهمتكم).

لكن أهل الميدان بالذات كانوا يعرفون مطالبهم، جذوة ثورة الحرية، قرابة الثلاثمئة ألف الذين رفضوا مبارحة الميدان، والذين تشرفتُ بأن أكون واحدا منهم، كانوا موقنين بالنصر ويرون بشائره كأنّ زرقاء اليمامة كانت بينهم وبشّرتهم به، رأيت ذلك بأم عيني عندما أقدم النظام الغبي على مهاجمة الميدان بآلاف البلطجية والمأجورين، رأيت ليلة انتصارنا يوم سلمنا أحد المتظاهرين بطاقته وحقيبته وقالها صريحة: “أنا رايح ومش راجع.. رايح أموت”، وركض صوب المتحف المصري ليصدّ هجوم البلطجية والمأجورين.

رأيتها في آلاف العيون التي حملت داخلها يقينا صلبًا بصدق قضيتهم؛ رأيتها في كل فعل وهمسة ولفتة في قلب الميدان.


والآن بعدما تحقق المراد وطرد المصريون الاستعمار المباركي عنهم، تعجزني الكلمات والحروف ويخذلني لساني؛ كل وظائفي الحيوية صارت معطلة اللهم إلا الذاكرة التي سأحرص على ألا تخونني وتنسى هذه الأيام العظيمة، والليالي المدهشة التي عاشتها مصر في الميدان، لتجترح معجزتها الأبهى وتعلن رأيها الأول منذ سبعة آلاف سنة، بأنّ هذا اللامبارك هو أعتى فرعون مصريّ وبأننا صار لنا رأي وكلمة ولن نقبل إلا بمصر أفضل من الحقبة الماضية، مصر بهية كحسناء مصرية، تتساءل ببراءة دماء الشهداء وكل النقاء المصري: البحر بيضحك ليه  وهي نازلة تتدلع تملا القلل؟؟

(روائي من مصر؛ له روايتان: “قاهري”، 2008، دار نفرو؛ و”أوجاع ابن آوى”، رواية، 2011، دار ميريت)

المحرر(ة): علاء حليحل

شارك(ي)

أرسل(ي) تعقيبًا

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

يمكنك استخدام أكواد HTML والخصائص التالية: <a href="" title=""> <abbr title=""> <acronym title=""> <b> <blockquote cite=""> <cite> <code> <del datetime=""> <em> <i> <q cite=""> <strike> <strong>