مشهدان طفوليّان عن الموت والمطلق/هشام نفاع

|هشام نفاع| • غضب على الالهة ثيتس ربما تكون فكرة مصارعة […]

مشهدان طفوليّان عن الموت والمطلق/هشام نفاع

أخيل وعقبه...

|هشام نفاع|

hisham-qadita


غضب على الالهة ثيتس

ربما تكون فكرة مصارعة الموت، أصلا، هي الأكثر طغيانًا في التاريخ البشري، القديم منه والحديث. مرّة كانت هناك الأسطورة. فوالدة المقاتل الإغريقي الباسل أخيل، الحوريّة ثيتس، عمّدته، طفلاً، في مياه نهر سيتكس، كيلا تفتّ فيه الحِراب بالغًا، لكن سهمًا مسمومًا قتله خلال حرب طروادة حين أصابه في عقبه، حيث أمسكت به أصابع والدته تحديدًا فمنعت الماء عنه.

إنها مأساة كاملة حسب انطباعي. فحيث قبضت الوالدة على جسد ولدها لتحصّنه من الموت، جاءه مخلب الموت هناك بالضبط. وعلى الرغم من كامل التماثل مع الوالدة الثاكل بوعيي اليوم، فحين كنت صغيرًا ظللت ممتلئًا لسنوات طويلة بالغضب على الوالدة؛ غضبٌ من النوع العاتب عليها وبحزم طفوليّ لا يعرف تسويات لشدة ما هو مأخوذ بسحر الأساطير: لماذا لم تنتبه ثيتس إلى غمر أخيل كله بالماء؟ أليست حوريّة، نصفها سمكة، ويمكنها الغوص به تحت الماء أيضًا؟

لماذا لم “تشقلبه” بعد أن غمرته للمرة الأولى، ثم تمسكه من يده وتغطّس ذلك الجزء الذي لم يصله الماء؟

كيف فاتها هذا؟

كنت أرى أمامي بوضوح صورة ما كان يتوجّب على الوالدة فعله، كنت أركّبها بأم عينيّ خيالي الصغير وأتمنى لو أنها حدثت لتحول دون نهاية أخيل، المقاتل البطل الذي كان من ألمَع النماذج لديّ.


سماء مزروعة بالنجوم

قالت لي طبيبة أجنبية مرّة، بعد أن عالجتني بسرعة حين لجأتُ إليها لخوف وهمي من ضعفٍ جسدي اعتراني، إنها لا تملك إيمانًا. استعملتْ كلمة “أملك”. لكنها، قالت إنها في كلّ مرة تنظر في الفضاء السّحيق، وترى السّماء والنجوم والظلام الشاسع، تشعر بقلبها ينقبض، ليس بسبب الخوف بل لشعور غريب يجعلها ترى نفسها في حجم نملة فتتوقف عن التحديق خوفًا من الإيمان.

“ماذا نحن؟” قالت، “لسنا سوى نمل. نحن نملات صغيرة وفوق هذا نقضي حياتنا في الحروب والرّكض خلف الوهم. لماذا؟ لأجل ماذا؟ عبثًا”.

أنا بقيت صامتًا كنملة.

الطبيبة الأجنبيّة الطيّبة التي تطلّ كهولة رقيقة من وجهها وشعرها وصوتها أعادت إليّ مشهدًا من طفولتي. قذفتني إلى تلك الليالي التي كنت أعجز فيها عن النوم وأنا أطلّ من شباك غرفة نومي على السماء المزروعة بالنجوم. كان قلبي الصغير ينقبض. يومها كان ذلك الطفل فيّ يخاف. يغطي رأسه باللحاف ويظلّ يطلّ من حين لآخر محدقًا عبر الشباك في سماء كبيرة سوداء ويردّد: أين تنتهي؟ أين تنتهي؟ ماذا يوجد بعدها؟

صدري الصغير ظلّ عاجزًا عن الاستيعاب. حين كبرتُ صار قلبي أشبه بما وصفته الطبيبة. ينقبض كلما تخيّل هذا المدى الواسع، لكني لم أعد أشعر بالخوف ولا بالغرابة. صرت أشعر بالعبث. كلما أطلت النظر في السماء أفقد معاني الأرض ثم أعيد الانشغال بلملمتها. صارت حركة الأيام عقيمة أحيانًا. لم أعد أستشعر الفرح ولا الحزن. فقدت المعاني لكني بقيت متفائلا بالقبض اليوميّ على مبرّر للاستمرار. صرت أنتظر هذا اليوم في كلّ يوم وأجري وراءه.


المحرر(ة): علاء حليحل

شارك(ي)

أرسل(ي) تعقيبًا

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

يمكنك استخدام أكواد HTML والخصائص التالية: <a href="" title=""> <abbr title=""> <acronym title=""> <b> <blockquote cite=""> <cite> <code> <del datetime=""> <em> <i> <q cite=""> <strike> <strong>