جُوعوا تَصِحّوا..!/ أسعد موسى عودة

|أسعد موسى عودة| قال حَضَرِيٌّ -أي من الحَضَر، القرى وا […]

جُوعوا تَصِحّوا..!/ أسعد موسى عودة

|أسعد موسى عودة|

قال حَضَرِيٌّ -أي من الحَضَر، القرى والأرياف والمنازل المسكونة، وهي خلاف البَدْو والبداوة- لرجل من أهل البادية: يا أخي! إنّي لأعجَبُ من أنّ فقهاءَكم أظرف من فقهائنا، وعوامّكم أظرف من عوامّنا، ومجانينكم أظرف من مجانيننا.

فقال الرّجل: وما تدري لِمَ ذلك؟ فقال: لا. قال الرّجل: ذلك من الجوع. ألا ترى أنّ العود إنّما صفا صوته لخلوِّ جَوْفه!

يأتي مضمون القصّة أعلاه من خلال جواب هذا البدويّ المنطلق بعفْويّته وسَجِيّته ونقاء فطرته وصفاء بداوته، ومن خلال هذا التّصوير البديع المُستمدّ من مادّة الصّحراء وقسوتها، سابقًا عصور التّفكير والتّنظير والتّنوير، ومِصداقًا لواقع، بل هو حقيقة -باعتبار أنّ الواقع ما قد يحدث، والحقيقة ما قد حدث، فعلاً- لا يُمكن لأحدٍ إنكارها، مُفادُها أنّ الشّبع الغريزيّ الحيوانيّ المادّيّ، مادّة لقتل الرّوح وتحميلها ما لا تحتمل، فتبيت عاجزة عن التّحليق في سماوات التّلقّي الرّوحيّ، والعطاء الفكريّ والأدبيّ والعلميّ والفنّيّ، اللّذيْن لا يتأتّيان إلاّ من خلال فنائها المادّيّ. ولكُم أن تستعرضوا سِيَر الأنبياء والفقهاء والعلماء والأدباء والشّعراء والظّرفاء والزّعماء -أعني الزّعماء الثّوريّين الحقيقيّين المُقاتلين البُناة، لا جِيَف، اليوم، المُنْتِنة، الّتي هي، غالبًا، امتداد لجِيَف وجِيَف- وكلّ من نفعوا المجتمع الإنسانيّ بشيء، وسترَون أنّهم فَنَُوا مادّيًّا، ليخلُدوا، فكرًا وممارسة، وعطاءً، ونهج حياة للبشر.

والحديث عن شهوتيْن، لا بُدّ من كسرهما -على حدّ تعبير الإمام المُجدّد، أبي حامد محمّد الغزاليّ، في كتابه الجليل “إحياء علوم الدّين”، من باب “كسر الشّهوتيْن” -يعني شهوة البطن (الأكل) وشهوة الفَرْج (الجِنْس)- كيما نكون مهيَّئين، فعلاً، للتّقدّم الرّوحانيّ والمعنويّ، والعطاء الحقيقيّ. أوَلَم يقُلْ لنا نزار: “إنّ الثّورة تُولَد من رَحِم الأحزان”؟! أوَلَم يقُلْ لنا نزار، أيضًا: “هل يُولَد الشّعراء من رَحِم الشّقاء”؟! ألا هل بلّغت؟ اللّهمّ فاشْهَد!


سُئلتُ.. فأجبتُ..

جاءني صديقي النّبيه بالسّؤال التّالي: أعلم أنّهم يقولون: سِياقة السّيّارة، رغم أنّ الفعل: ساق يسوق؛ فهل يقولون: المَحْشِيّ، للاعتبار نفسه؛ حيث الفعل هو: حشا يحشو؟(!) ويقولون: الجُبْن، بدلاً من الجُبْنة، فهل هذا صحيح؟ فأجبت صديقي بالآتي: شكرًا على سؤالك! وأحسنت! أوّلاً: نقول: ساق يسوق سَوْقًا وسِياقًا وسِياقة ومَساقًا. ولا نقول سِواقًا ولا سِواقة؛ لأنّ الـ”واو” إذا وقعت بين كسرة وألف في مصدر الفعل الثّلاثيّ الأجوف (المعتلّ العين)، كما في “صِيام” الّتي أصلها “صِوام”، تتحوَّل إلى “ياء” لمجانسة الكسرة السّابقة لها، وهو ما يُسمّى في الدّرس اللّغويّ الصّرفيّ “الإعلال بالقَلْب”؛ أي قلب حرف العلّة الـ”واو” -ههنا- “ياءً”. ثانيًا: الصّحيح أن يقولوا: المَحْشُوّ، ولكنّهم يقولون: المَحْشِيّ، على غير قياس (عامّيّة)؛ ولا علاقة لذلك بالبند الأوّل، مطلقًا. ثالثًا: الأصل: الجُبْن والجُبُن والجَبُن: ما جَمَد من اللّبن، والقطعة منه: جُبْنة. وإنّي لأشكرك! ألا هل بلّغت؟ اللّهمّ فاشْهَد!


لُغتي أنا..!

لا، ليس في هذا العُنوان منّي -والله- وإن بدا كذلك أوّل وَهلْة- أيُّ نبرة كِبْرٍ أو استعلاء، فهما مادّة الفَناء، ولا نريد إلاّ البقاء، بكم ولكم، سادتيَ القرّاء!

إنّما المسألة أنّ الشّاعرَ أبا تمّامٍ، حبيبَ بْنَ أوسِ الطّائيّ، سُئل، مرّة -وهو المعروف بقوّة عبارته وصعوبة تراكيبه-: “لِمَ تقولُ ما لا نفهم؟”، فأجاب: “لِمَ لا تفهمون ما أقول؟”.

وأنا الّذي لم أصل -ولا أراني سأصل- إلى شعرة في مَفْرَِق أبي تمّامٍ -أو هي شعرة المتنبّيّ، الّذي قال في صباه، ارتجالاً: “أيَّ مَحَلٍّ أرْتقي؟/أيَّ عظيمٍ أتّقي؟ // وكُلُّ ما قد خلق اللهُ وما لم يخلُقِ// مُحْتَقَرٌ في هِمَّتي/كشَعْرَةٍ في مَفْرِقي” -ولنا حديث ونقاش آخران- في مقام آخر- مع عمّنا المتنبّيّ حول مضمون ما جاء به، رغم قوّته وروعته -كثيرًا ما أطالَب بخفض سقف اللّغة الّتي أكتب بها! أقول إنّني -والله- أعتمد التّبسيط والتّسهيل، دومًا، وشرح ما قد يَشُقّ على سادتيَ القرّاء فهمُه، لكنّني لن أصل بذلك، أبدًا، إلى حدّ النّيل من ثلاثة أقانيم (أصول؛ سُريانيّة معرَّبة): سلامة اللّغة، وإثراء القرّاء بقاموس جديد، ومعرفتي المتواضعة جدًّا جدًّا جدًّا! ألا هل بلّغت؟ اللّهمّ فاشْهَد!


تنويه واعتذار..

أعتذر إليكم -سادتيَ القرّاء!- منوّهًا بخطأ طباعيّ وقع في مادّتنا من الأسبوع الفائت، حيث جاء: “هذا السِّمة”؛ والصّحيح: هذه السِّمة. ألا هل بلّغت؟ اللّهمّ فاشْهَد!

لَشَدّما يبعث فيّ السّرور ويُضيء فيّ الأمل، تلقّي تعليقاتكم على، وتساؤلاتكم عمّا تطرحه هذه الزّاوية، عبر عُنوان البريد المُسجّل هنا: asarabic@gmail.com. وإلى لقاء آخر، إن شاء الله! وحديثنا، أبدًا، عن لغتنا ونَحْن!


(الكاتب دارس عاشق للّغة العربيّة، مترجم ومحرّر لغويّ؛ الكبابير/ حيفا)


المحرر(ة): علاء حليحل

شارك(ي)

أرسل(ي) تعقيبًا

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

يمكنك استخدام أكواد HTML والخصائص التالية: <a href="" title=""> <abbr title=""> <acronym title=""> <b> <blockquote cite=""> <cite> <code> <del datetime=""> <em> <i> <q cite=""> <strike> <strong>