حِين تَطغى المادّة في مجتمع الجُهّال..!/ أسعد موسى عودة

|أسعد موسى عَودة| لن أبوح، الآن، بما وراء هذا العُنوان، […]

حِين تَطغى المادّة في مجتمع الجُهّال..!/ أسعد موسى عودة

|أسعد موسى عَودة|

لن أبوح، الآن، بما وراء هذا العُنوان، غير أنّه من الوضوح بمكان، أنّ مأساة الإنسان في هذا الزّمان، آفتان، الجهلُ -الجهلُ بكامل هيئته: الحُمق والغِلْظة، أوّلاً؛ وضَحْل (قلّة) المعرفة، ثانيًا- وطُغيان المال. فلا نحن مجتمعاتٌ قادرةٌ على صُنع المال، ولا نحن مجتمعاتٌ قادرةٌ -بجهلها، وقلّة دينها، وتجرّدها من آدميّتها النّاتج عن نَفاد صبرها، غير الموجود، أصلاً؛ حيث الصّبر ميزانُ الإنسان، وهو الفيصل بينه وبين الحيوان- على التّكيّف مع قلّة المال، هذا على فرض أنّه قلّ؛ إذ هو يظلّ قليلاً في عين من لا يملأ جَوْفَه إلاّ التّراب.

فإن كنّا غير قادرين على صُنع المال، بل نبذّره حيث جاء إلينا صدفة، فلْنحاولِ التّسلّح بشيء من الثّقافة والأدب والتّراث والدّين والأخلاق، عساها تُخفّف عنّا وطأة جُحودنا، إذا عميت أبصارنا عمّا نحن فيه من خير عميم. اللّهمّ اكْفِنا بحَلالِك عن حَرامك.. وأغْنِنا بفضلك عَمّن سِواك..!

لمُحِبّي المعرفة.. وأهل الاختصاص.. سُئِلْتُ.. فأجَبْتُ..

جاءني صديقايَ -في بحر هذا الأسبوع- كلٌّ بسؤاله القيّم؛ فقال أوّلهما (بتصرّف): “عزيزي “كِيفَك”؟ ماذا لو تطرّقت في زاويتك إلى شأنيْن لغويّيْن: “بِـ” و”في” بعد الأفعال؛ فهل هناك قواعد، أم أنّ هذا متعلّق بكلّ فعل وفعل؛ كأن نقول: “أكلتُ بالشَّوْكَة” و”وقعتُ في البئر”؛ فهل تدلّ الـ”في” على مكان فيزيائيّ، والـ”باء” على وسيلة، مثلاً؟ وهل يجب أن نقول: “بدون” أم “من دون”؟ وسلمت لأخيك، (أبو) شذا”. وقال ثانِيهِما، بعد أن ألقى تحيّة الصّباح: “سؤالي بالنّسبة إلى الدّول؛ فكيف يُمكنني معرفة ما إذا كانت الدّولة مذكَّرة أم مؤنَّثة، ولماذا؟ وهل “فِلَسطين”، تحديدًا، مذكَّر أم مؤنَّث؟”.

فإليكم جواب الأوّل: شأن حروف الجرّ -باصطلاح علماء البصرة- أو حروف الخَفْض -باصطلاح علماء الكوفة- في اللّسان العربيّ، شأن كبير؛ حتّى إنّه قيل إنّ العارف بأصول استعمال هذه الحروف وما تؤدّيه من معانٍ، عارف باللّغة العربيّة بمُجملها، وغير العارف… غير عارف…. فاعلم يا أخي! -والله أعلم- أنّ حروف الجرّ أو الخَفْض هذه -وهي من حروف المعاني- عندما تلحق بمتعلَّقها -يعني الفعل أو ما يُشتقّ منه- إنّما تؤدّي دوريْن، أوّلهما تَعْدِية الفعل تَعْدِية غير مباشَرة إلى مفعوله؛ كأن تقول: جلستُ على الكرسيِّ، بدلَ أن تقول: جلستُ الكرسيَّ؛ وتُقابل ذلك في اللّغة العبريّة ظاهرة الـ “מושא עקיף”، وفي اللّغة الإنچليزيّة الـ “Indirect object”. أمّا ثانِيهِما، فهو إكساب هذا الفعل معنًى ودلالة خاصّيْن؛ فعندما تقول، مثلاً: رغبتُ في الشّيء، تعني أنّك أردته؛ وعندما تقول: رغبتُ بالشّيء، تعني أنّك أردته دونَ سواه؛ وعندما تقول: رغبتُ عنِ الشّيء، تعني أنّك لم تعُد تريده. وعندما تقول: طويتُ على الأمر كَشْحًا (والكَشْحُ -ههنا- هو ما بين السُّرّة ووسَط الظّهر)، تعني أنّك استمرَرْتَ فيه؛ وعندما تقول: طويتُ عن فلانٍ كَشْحًا، تعني أنّك أعرضت عنه وقاطعته. أمّا بالنّسبة إلى سؤالك، تحديدًا، الخاصّ بـ “بِـ” و”في”؛ فحديثك -ههنا- عمّا اصطُلح عليه بـ “باء” الاستعانة، وهي الدّاخلة على آلة الفعل، وهناك اثنتا عشْرةً “باءً” أخرى، لن تتّسع المِساحة المُتاحة لنا لهذه الزّاوية للخوض فيها، لا اصطلاحًا ولا معنًى ولا توضيحًا. أمّا حيّز وقوع الفعل، الّذي عبّرت عنه بقولك: “وقعتُ في البئر” -كفاك الله شرّ الوقوع في البئر يا أبا شذا!- فغالبًا ما تسبقه “في” (نقول “غالبًا”، لأنّ لأسماء العَلَم أن تأتي مسبوقة بالـ”باء” أيضًا؛ فتقول: أقمتُ بمصرَ، مثلاً). أمّا بالنّسبة إلى “بدون” و”من دون”، ففي معنى “غَيْر” ههنا، قُلْ: من دون؛ ولا تقُلْ: بدون. هذا -وفي هذا الباب، الّذي أشكرك على دقّه- أرجو أن أنوّه بخمس مسائل هامّة: أُولاها، أنّ حروف الجرّ أو الخَفْض هذه قد تأتي زائدة، وهو ممّا يزيد التّركيب قوّة، علمًا أنّه يُمكن الاستغناء عنها، وهو ما يُقصد -هنا- بالزّيادة؛ فنقول، مثلاً: ما جاء من أحد، في حين يُمكننا أن نقول: ما جاء أحد. وثانيَتُها، أنّ حروف الجرّ أو الخَفْض هذه قد تُحذَف أو تُنْزَع، فيتعدّى الفعل إلى مفعوله مباشرةً، ليُصبح هذا المفعول منصوبًا -في الاصطلاح النَّحْوِيّ -على نَزْع الخافض- ولذلك شروطه وقوانينه، الّتي لن نخوض فيها، أيضًا؛ لقصر الوقت وضيق المِساحة؛ حيث قال جرير، مثلاً: “تَمُرُّون الدّيارَ ولم تَعُوجوا/ كلامُكُمُ عليَّ، إذًا، حَرامُ”؛ بدلاً من أن يقول، أصلاً: تمرّون على الدّيار أو بالدّيار (ولو قال ذلك، أصلاً، لما استقام البيت، وزنًا)، وقد قال قَيْس: “أَمُرُّ على الدّيارِ ديارِ ليلى / أقبّل ذا الجدارَ وذا الجدارا / وما حُبُّ الدِّيارِ شَغَفْنَ قَلْبِي، ولكنْ حُبُّ مَن سَكنوا الدّيارا”. وثالثتُها، أنّ من حروف الجرّ أو الخَفْض هذه ما قد يُخفَّف؛ حيث تُخفَّفُ، مثلاً، “إلى” بـ”لِـ”، و”في” بـ”بِـ”، وذلك بشرط عدم تغيّر المعنى. ورابعتُها، أنّ ما يُحدّد اختيار حرف الجرّ أو الخَفْض، أحيانًا، هو المقصود، عينيًَّا ومعنويًّا لا حرفيًّا بمتعلَّقه (الفعل)، فإذا حمل الفعل “قال”، مثلاً، معنى “الاعتقاد” أو “الإيمان” عُدِّي بـ”بِـ”، ولم يُعدَّ مباشرة، حيث نقول، مثلاً: القائلون بهذه العقيد، ولا نقول: القائلون هذه العقيدة. وخامستُها، ضرورة الرّجوع إلى قاموسنا اللّغويّ، وإلى موروثنا الدّينيّ والأدبيّ القديم، واستمرائنا الألفاظ والمعاني والتّراكيب والدّلالات، وتذويتها فينا، واتّحادنا بها، روحًا ووعيًا، قَلْبًا وقالَبًا، عسانا ندرك كُنهَها وجمالها وجلالها، فلا نرضى بسواها في الهوى بَدَلاً.

أمّا بالنّسبة إلى صديقيَ الثّاني وسؤاله، فسأُضطرُ إلى تأجيل جوابه إلى حلْقة الأسبوع القادم -بإذن الله- فأراني أثقلت عليكم، اليومَ، لغةً.


حكاية من عصر التّعليم إلى عصر اللاّ- تعليم

حَجّ هارون الرّشيد [الخليفة العبّاسيّ الخامس 170 - 193 هجريّة / 786 - 809 ميلاديّة]، ثمّ شَخَصَ (توجّه) بعد الحجّ إلى المدينة المنوَّرة، وأراد أن يرى مالكَ (مالكًا) بْنَ أنَس [93 - 179 هجريّة / 712 - 795 ميلاديّة]، وقد سمع عن علمه ونبوغه الكثير. فأرسل يستقدِمُه. فقال مالكٌ للرّسول: قُل لأمير المؤمنين إنّ طالبَ العِلم يسعى إليه.. أمّا العِلم فلا يسعى إلى أحد.

وأَذْعَنَ الخليفة وزارَ مالكًا في داره. ولكنّه أمر أن يُخلى المجلسُ من النّاس، فأبى مالكٌ إلاّ أن يظلّ النّاسُ كما كانوا، وقال: إذا مُنِعَ العِلمُ عنِ العامّة، فلا خيرَ فيه للخاصّة!


هذِي الحروف.. لا تُبقِي على أحد..!

هذه المرّة، أيضًا، نجحت حروف المباني في أن تُراوِغ عين الصّقر، الّتي تمرّ من تحت عصبها البصريّ، كلَّ يوم، آلاف الكلمات؛ فجاءَت في حكايتنا التّراثيّة، من الأسبوع الفائت، تحت عُنوان: “بين صبيّ عربيّ.. وخليفة (مَلِك) أَمَوِيّ..!”: “يُخيفه”، بدلاً من: يُخفيه! ما اقتضى التّنويه.

(الكبابير/ حيفا)


المحرر(ة): علاء حليحل

شارك(ي)

3 تعقيبات

  1. وأشكر الاستاذ أسعد تحديدًا على المواد القيّمة. جميلةٌ هي لغتنا

  2. يعطيك العافية

    شكراً

  3. ألف شكر للإفادة أستاذ أسعد.

أرسل(ي) تعقيبًا

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

يمكنك استخدام أكواد HTML والخصائص التالية: <a href="" title=""> <abbr title=""> <acronym title=""> <b> <blockquote cite=""> <cite> <code> <del datetime=""> <em> <i> <q cite=""> <strike> <strong>