مشهد من مشاهد وقوفي في طابور استعارة الكتب/ معاذ خطيب

|معاذ خطيب| لا أدخل مكتبة الجامعة كثيرا؛ فبالرغم من عشق […]

مشهد من مشاهد وقوفي في طابور استعارة الكتب/ معاذ خطيب

|معاذ خطيب|

معاذ خطيب

لا أدخل مكتبة الجامعة كثيرا؛ فبالرغم من عشقي لرائحة الكتب، خاصة تلك ذات الصفحات الصفراء التي كانت تثبت بغلافها بنفس الصمغ الذي تصلح به الاحذية –أجلكم الله- إلا أني لا اجد المكتبة مكانا يخاطب روحي الثورية الوثابة، وآخر أمانيّ أن أُوسم بوسم الطالب المجتهد الذي يقضي ستة أخماس وقته دافنا رأسه في الكتاب، كمن ألمّت به أزمة عاطفية طارئة.

إن دخلت مكتبة الجامعة يستقبلك في مدخلها الحارس العابس المتهالك على كرسيه كالمسخوط، لا تميّز إن كان حيا أم ميتا إلا إن علا صوت أحد الطلاب في ذاك المكان الذي يمنع فيه الكلام، فيفيق مضطربا كحصان كسول مُنيَ بصفعة على قفاه ويجزر من علا صوته ويحدجه بنظرة تخلع القلب، لا تملك بعدها إلا أن تستذكر كل عبارات الاعتذار وتسمّعها له واحدة بعد الأخرى أملا في أن يشيح عنك بوجهه الذي تزيده السمرة الأفريقية شبها بوحشيّ في لحظة رميه حمزة بالرمح الذي استقرّ في قلبه.

دخلت ذاك اليوم إلى الجامعة لاستعارة كتاب. وقفت في الطابور انتظارًا حتى يحين دوري. بعد برهة لاحظت أن الشخص الذي كان مشغولا مع موظفة المكتبة المسؤولة عن إعارة الكتب لم يكن منهمكا بالإجراءات المألوفة لاستعادة الكتب التي تأخذ دقيقة على الأكثر، بل كان كمن يحاول كسب مزيد من الوقت في الحديث مع تلك الموظفة (الطالبة). كان لا زال يكلمها حين قالت “Next please”.. عبارة هي بمثابة المسيح المخلّص لمن ينتظر في طابور طويل حين يأتي دوره، خاصة إذا كان من قبله ومن بعده شخصان لا تعرف بالضبط كم مرة يستحمّان في السنة، لكن الأكيد أن اشياء مثل Axe أو Brute بالنسبة لهما هي مثل عبارة “تسشهامبالا-ندلولو” بلغة الزولو بالنسبة لي.

تقدمت مستبشرا مبتسما بشوش الوجه محاولا إبداء الجانب المهضوم جدا في شخصيتي، بعد أن حفظت عن ظهر قلب الكلمات الانجليزية التي علي أن اقولها كي تفهم الموظفة أنّ الكتاب الذي أبحث عنه غير موجود، ومتمنيا أن لا تجيب الموظفة بشيء غير الشيء الذي افترضته والذي بنيت عليه سلسلة الإجابات التالية والمُعدّة مسبقا التي وضعتها لتكون جاهزة كإجراءات احترازية في حالة كون الكتاب الذي أريده غير موجود لا قدر الله.

وقد كان الكتاب غير موجود فعلا.

لكن شيئا أنقذ الموقف؛ فالشاب الذي كان يكلم الموظفة قبلي لم يذهب حين تقدمت أنا، بل تنحى جانبا وظلّ واقفا على مقربة من الفتاة. كان يتكلم إحدى اللغات الافريقية من بين 11 لغة رسمية أخرى في جنوب أفريقيا. ولم أفهم ما كان يقوله للموظفة في البداية، ولم أدرِ أنه عمّا قليل ستتكشف أمامي تفاصيل فيلم وثائقي حي يجسد صورة من صور الوضاعة البشرية الذكورية.

في هذه اللحظة قام الشاب شديد السمرة طويل القامة كث الذقن منتوفها كأنه خارج من معركة مع نعامة، بتغيير لغته وبدأ يتكلم الإنجليزية. ومن المعلوم أنّ إتقان اللغة الإنجليزية في جنوب أفريقيا (وكل الدول الأفريقية) هو أمر يعتبر من علامات الرّقيّ والتحضّر، ولذلك تجد الأفارقة يتكلمون بها إن تطلب الظرف ذلك، أو إن كان مقابلهم شخص أفريقي لكنه يتكلم لغة أفريقية أخرى لا يفهمونها. في هذه الحالة، الارجح انه فعل ذلك ربما ليذكر عشيقته بأنه هو هو الشاب المثقف المتحضر الذي ستخسر كثيرًا إن تخلت عنه.

بدا الشاب شاحبا مكفهرّ الوجه، كعامل طوبار عاد لبيته منهكا ممنياً النفس بوجود فراريج محشوة على طاولة غدائه، وإذ بها طوطماجة. صحيح أنّ الفتاة كانت قصيرة القامة بشكل ملحوظ مقارنة بقامته هو، لكن طأطأته لرأسه لم تكن محاولة لتقليص فارق الطول لتسهيل التواصل، بل كان واضحا فيها الانكسار والتذلل. وذلك ما أكده ما كان على وشك أن يقوله.

- I came to fix things

قال لها، بنبرة تضرّع لا أدري إن كان خاطب بها ربّه مرة من قبل أبدا.

- nothing need be fixed.

ردت عليه بنبرة عسكرية حاسمة، ويداها مشغولتان بأزرار لوحة المفاتيح، من دون أن تكلف نفسها حتى عناء أن تدير عينيها في محجريهما الواسعين تجاهه، خوفا، كما يبدو، من أن يظن التفاتتها سمة خير وفألا حسنا.

- but why don’t you want to give me a second chance?

- because you already got other girl who can give you even more chances.

- noo, but that girl…

قاطعته هي هنا، وقد استدارت بكل جسدها تجاهه هذه المرة بصورة روبوتية لم تختلج معها ملامحها بأيّ مشاعر ظاهرة أو باطنة، وقالت له بابتسامة مشبعة بالسّخرية حتى آخرها :

- it is over, and I wish you be happy with her.

- but…

لا بط ولا وز.. استدارت من دون أن تبدي أدنى اهتمام بمحاولاته البائسة وتوسلات عينيه الكادحتين. ولولا وقوفي هناك لربما كان سيخرّ ساجدًا متوسّلاً طالبا عفوها وصفحها ورضاها.

- can you please wait, a’mgonna check perhaps the book is on the short-loan shelves.

قالت مخاطبة العبد الفقير المشدوه الواقف فاغرا فاه من هذا الموقف المهيب. ذهبت هي تبحث عن كتابي المنشود، وبقيت أنا واقفا أنتظر.

كان قليل الحيا لا يزال واقفا. الإهانة التي تعرض لها كانت كفيلة بجعل أقلّ المخلوقات حياء مثل بعوضة فتيّة في ليلة صيفية، يستحي على دمه وينصرف بما تبقى له من ماء وجه –إن بقي منه شيء أصلا- لكن صاحب الشحويطة ظلّ واقفا ينتظر، وقد قررتُ أنا حينها استغلال الفرصة لتجربة ما قرأته عن لغة العيون.

قمت بعمل حركة جعلته يلتفت إليّ بعد ان كانت عيناه تحاولان القفز من فوق رفوف الكتب البعيدة التي غابت محبوبته خلفها. أطلقتُ عيني إلى قدميه لأبدأ نظرة طويلة من النوع الاستخفافي الذي لا شكّ أنه لا يروق لأحد. وجدت أنه يلبس شحويطة أجلكم الله.. لا تختلف كثيرا عن شحويطة الوضوء البنية أو سوداء اللون التي كان حجاجنا الكرام يحضرونها من الحج، والتي تستخدم أيضا للتصدي لزحف الصراصير، ولمن أراد أن “يتحاوى” أشقياء الحارة، ولهم فيها مآرب أخرى.

مشت عيناي صعودا لتجد أنّ أخانا يلبس بنطلون “ترينينغ” من النوع القطني رديء الجودة، يزيّنه ثقب واضح المعالم لا لبس فيه، جعلني اراجع حساباتي وتقييمي لمعرفتي واطلاعي الذي كنت اظنه ممتازا ومواكبا بصورة جيدة للمستجدات في عالم الموضة والمظهر الـ “ستايلِش” والمودرن.  ولا عيب في لبس شحويطة وضوء أو في وجود ثقب في البنطلون.. هناك ثقب حتى في طبقة الأوزون .. لكن أن يأتي الاخ لهذا اللقاء رفيع المستوى ببنطلون مثقوب وشحويطة مهترئة، هو فعل ينمّ عن جهالة وجلافة وخشونة أحسبها بتأثير حياة القبيلة التي يبدو أنه جاء منها مباشرة الى الجامعة، جعلت الأخ غشيما، ولا جرم أنّ عشيقته قد رمته لأجلها.

وصلت صعودا إلى وجهه، فوجدته ينظر إليّ مستنكرا. حاول أن ينقذ نفسه من الموقف المحرج، فوجّه إليّ سؤالا لم يبحث عن اجابته حقا، بقدر ما انها كانت محاولة منه للتخلص من نظراتي التي لم أجتهد في أن اخفي استهتاري به من خلالها.

- does it really take that long to fetch a book?

فهمت أنه يشعر بأنّ عشيقته التي مسحت بكرامته الأرض قبل ثوان معدودة قد أطالت غيابها بحجة البحث عن الكتاب.. وأظن انها فعلت ذلك أملا في أن يستحي هو على دمه وينقلع، لتجنيب نفسها حرجا اضافيا أمام شخص مثلي ما مصدّق على الله يشوف مشهد من هالنوع، ولتجنيبه إهانة لم يبدُ أنه يكترث لها.

لم أرد عليه. هززت رأسي وتصنّعت ابتسامة كانت اقرب للسخرية منها إلى التعاطف معه، وأعتقد انه ادرك ذلك.

أخيرا جاءت بطّته تتهادى.

استبشر هو خيرا.. واستعد لجولة جديدة من قلة الحياء.

قالت لي إنها لم تجد الكتاب، لكنها ستسأل المسؤول عنها أين يمكن أن تجده. استدعت المسؤول. جاء المسؤول، وهكذا صرنا ثلاثة، لكن حتى هذا لم يمنع مقصوف الرقبة من استئناف محاولاته المفضوحة والبائسة في استرداد كرامته التي كانت تتبهدل أكثر في كل محاولة جديدة له.
حين كانت الموظفة والمسؤول مشغوليْن في البحث عن الكتاب من خلال الحاسوب، كنا وأنا وصديقي لا زلنا واقفين مكاننا بقربهما: أنا مُصّر على الحصول على الكتاب الذي تعتمد عليه دراستي، وهو مُصر كما يبدو على الحصول على صفعة أخرى لكرامته المهدرة. هنا تناول قصاصة ورق وأخذ يكتب فيها شيئا. لاحظت المحبوبة الضائعة ذلك، وخاطبته بصورة ذكية جدا، بصوتٍ عالٍ كفاية كي يُسمَعَ من مسافة 20 مترا على الأقل متعمدة أن يعرف الواقفون ما كان يحاول ذاك الرخيص فعله (وكأني مكنتش عارف، وكأن اذني وعيني -ولولا خوفي من اجراءات عقابية- يدي أيضا لم تكن مندمجة حتى النهاية بما كان يجري). قالت له مستهزئة:

- Are you writing me a love letter?

أنتم جهلة بجنون الحب إن ظننتم أن ذاك قد حرّك فيه شعرة من حياء. بل ابتسم، بصورة أكدت أن ذلك ما كان يفعله فعلا!

انتهى من الكتابة، مد يده بالورقة نحوها مبتسما بصورة واثقة، لكن بلهاء في نفس الوقت. ظلت يده معلقة في الهواء برهة من الزمن لا ادري ان رآها قصيرة أو طويلة، لكنها كانت كافية كي تخجل هي وتمد يدها لتأخذ الورقة. قرأت ما فيها، وضحكت بنبرة لا تقل سخرية عن سابقتها، وقالت له:

- And do you think my heart was not broken when I saw you with that girl?

وهذا أكد شكوكي.. فقد ضبطته متلبسا بالجرم الأكبر.. كان مع عشيقة ثانية.. أو ثالثة.. أو رابعة.. الله أعلم.. ويبدو أنه لم يعدل بينهم أيضا، فلا هو أمسكهنّ بمعروف ولا سرّحهن بإحسان، وكان لها كل الحق في فسخ عقد العشرة. وإلا فكيف لها أن تستبدله بعشيق غيره في اليوم التالي؟ كان لا بد من حسم الأمر وبأسرع طريقة ممكنة تضمن انتقالا مرناً لمحبوب جديد من دون أيّ مشاكل ومن دون الوقوع في حرج اسمه الإخلاص أو الوفاء أو الذكريات الحلوة، وكان لا بدّ من استغلال تلك اللحظة بالذات، فقد كان هناك شهود أيضا، المسؤول الذي لم يبدُ الأمر بالنسبة له خارجا عن أي مألوف، وأنا.
أنا الذي تمنيّت في تلك اللحظة لو أنني “وولفيرين (Wolverine)” من فيلم الخيال العلمي المعروف X-Men وتخيلت نفسي وقد استللتُ مخالبي الطويلة الحادة لأمزق بها ما تبقى فيه من حياء؛ فأن يُقال عن شخص “عديم الحياء” أهون من أن يقال عنه “قليل حياء”.. فالأولى توحي باحتمال أنه وبسبب خلل وراثي معيّن لم يحصل على أيّ حياء منذ ولادته؛ فيما توحي الثانية أنه كان لديه حياء لكنه كان في كل معركة عاطفية شبيهة بتلك، يخسر بعضا منه حتى غدى رداء الحياء عليه كأوراق شجرة التين تساقطت جميعا ذات خريف.

ولم يكن باستطاعته عندها أن يقاوم أكثر.. أو أنه انتبه عندها أنّ هناك صنما واقفا يسمع ويرى لا زال ينتظر الكتاب، ويفهم ما معنى أن يهان رجلٌ من امرأة أمام الناس، ولا سيما إن كان ذلك بعد أن ضحّى ذاك بكرامته ذات الأرواح السبع، واحدة بعد الأخرى، أملا في أن يثمر ذلك في اصلاح ذات بين عشيقين لم يبدُ أنّ ذاك الموقف أصلا كان جديدا بالنسبة لهما. بدا لي أنه موقف هما معتادان عليه، يحدث كل يوم، عند كل تبديل للحبيب، سرا كان أو علانية.

نظر إليها صاحبي نظرة متألمة جعلتني أرثي لحاله. استدار ومشى متثاقلا يجر شحويطته خلفه ومعها أذيال الخيبة تلحق بها، وخرج من باب المكتبة لا يلوي على شيء.

هممتُ أن أقول له “بتستاهل الله لا يردك”.. لكني لم أعرف ترجمة الله لا يردك بالانجليزية.. من يعرفها يخبرنا للمرة القادمة.. فالاحتمال كبير جدًا أنّ ذاك الملقوف لم يتعلم الدرس.

(الراصد)

المحرر(ة): علاء حليحل

شارك(ي)

أرسل(ي) تعقيبًا

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

يمكنك استخدام أكواد HTML والخصائص التالية: <a href="" title=""> <abbr title=""> <acronym title=""> <b> <blockquote cite=""> <cite> <code> <del datetime=""> <em> <i> <q cite=""> <strike> <strong>