هروب الأسود/ وسيم طربيه

(مقالة ريم غنايم النقدية في الأسفل) |وسيم طربيه| إنتظر […]

هروب الأسود/ وسيم طربيه

(مقالة ريم غنايم النقدية في الأسفل)

|وسيم طربيه|

وسيم طربيه

إنتظر الأسود في عتمته الحالكة، بين الأغصان الملتهبة بنيران الشوق. لم يأت نور من النافذة ليصرخ بالمعنى فيحرّره من براثن الغضب ونزعات الماضي أسيرة نفسهِ. جادَ الليلُ وذهب بعيدا، كأنهُ الفارّ من معركة الأزمان المتوحشة.
هتفَ الصباح لهُ، ويحكَ يا هذا: ما أنتَ فاعِلُ، والنور ليس فقط في تلك الحسناء التي تجلس بجوارك، بل في كل مكان.

عاد الأسود لكن بحلة الصّباح، لأنّ نديمه الذي أخافته الأشعة وأسواط اللهب محرقة القلوب، غاص بالمحيط ووسم المرجان بلونه الديجوريّ، ليصبح المرجان ابن الإنسان المستوطن في قعر البحار. هكذا أصبح الصباح والمساء متشابهين -لا باللون- إنما بالفكرة، أما العادة والتقليد فكُسِرا معا من على مذبح زيوس العظيم.

أصبحت الحسناء “كاثي” ابنة الاثنين تتجلى بالصباح كملكة، وبالمساء كناسكة متعبدة. نادتني بصوتها الداكن الذي يملأ الصباح ضبابا: “أنجدني من سَكرَةِ المتوحش الساكن في عالم الخيال، ذاك الذي قبض على أعماقي وجرَّد الكاف من عذريتها، وأحرق الشرايين الطامحة وأوردها إلى الهلاك، حطم عالم الذكريات، جعلني أحفر رمسي بساعدي وأضع عليه اسمي معكوس الأحرف، فاقد المعنى، راضخاً للعنتريات الكاذبة، لأصبح آية من الحزن يا صديقي تُستشهَد بهِ الحضارات”.

نطق الأسود :”أنا الخمران عاشق الإنس والجان المملوء بكل أساليب الفن والوصف والحنان، لا تقلقي يا ابنتي فأنتِ ابنةُ الاثنين ولي حصة الأب، والأخ، والصديق. لا تجزعي من ما منَّ الرب عليكِ من مخاليع لئام، إن السماء تُديرُ وتُسيِّر العبد، تيسره وتعسر أمره، ولكن تدبره ولا تنسى عبادها لأنها هي من طينة خالقها لتعبده. فالعبد للرب والرب كفيل بعباده”.

هدأت الحسناء من روعها وأخذ الأسود بالتبدد مع ظهور نور الصباح الذي أخذ يمزّق أطرافه. كان الأسود وقتها يتبدد ويزول وإذ بالحسناء تناديه: “أين أنت؟ لا تذهب بعيدا يا أخي!”

أحسّ الأسود وقتها بغبطة ميت ترجع إليه روحه، لقد تذكر نفسه عندما كان يحكم السماء بصباحها وليلها وكيف كانت النجوم تمسي عليهِ كل ليله، تذكر ما أراد أن ينساه من مرافقته لغيمة رهمة!
فقال أثناء تبدّده: “أرْجِعُ بالمساء أكون في عافيتي، فانتظريني”.

حَلَ المساء وإذ بالحسناء قرب نبتة الخزام تنتظره وتستمع لأغاني تطرح القلب أرضًا، تطهِره من الأعماق، ترجعه إلى أصله كصفحه نقيه بيضاء، كطفل ولد الآن.

قال الأسود: “ما بالكِ أيتها الحسناء؟”
قالت: “أنا حزينة”.
قال الأسود: “الحزن جرثومة خبيثة تعيش على الحقد والكراهية وتمتصّ الحبّ، لا تجعلي من حياتك مستودعاً للأحزان فتكون ثماره كلها من الكراهية”.
قالت: “من أنت؟”
قال: “أنا حيدرة الأسود روحاً يعانق السّماء يهاتف النجوم والسحب.”
قالت: “هيا بنا نعانق السحاب، فأنت تستطيع ذلك ولكن أنا مقيدة بإنسانيتي”.
قالَ الأسود: “حرّري الكراهية والحزن من قلبك وفكري بحبّ الحياة، ستقدرين على معانقة السحاب، وليس السحاب فحسب”.
قالت: “ما تقول عني؟”
قال: “أستحسن الودَّ في عينيك. أنتم بني البشر خلقتم من أطيان عدة وتفنن الخالق بصنعكم وطبع في قلوبكم الحس والعاطفة وجعل في عقولكم التفكير والصراحة ووضع لكل شيء نقيضهُ، من الشر والخير الجمال والقبح.
“والرب الودود صاحب العرش المتين المكين جلس بصفاء ورخاء بعد أربعٍ من يوم الثلاثاء تمم الخليقة ولكن كان لهُ في آدم امرُ سواء جعل يتفنن به ليتفطن انهُ يحتاج إلى شريكة حياة لأنّ الله أو ربنا “يعلم بالغيب” خالق الظروف والصروف. ولا أريد أن أدخل في تكوين آدم ونزول الملائكة ورفض الأرض إعطاء الملائكة طينة من طينتها لله، حتى إنّ إبليس بذلك الوقت نزل إلى الأرض.
“فقرّر الله سبحانه وتعالى أن يبعث ملك الملائكة علية السلام جبرائيل ليحفظه الله تحت ظلّ عرشه المتين فأخذ من كل أصناف التراب حفنه، وكذا خرج أبناء البشر ملونين.”
المهم: “شريكة آدم الجميلة الحسنة صنعها الخالق آية في الجمال مثلك يا كاثرين ولو أنكِ تعرفين لماذا رَويتُ لكِ هذهِ القصة ستدهشين.
“أولاً كانت تشبهكِ وثانيا إن الله عز وجلّ أعطى اختيار التسمية للملائكة فكان لي هنالك صاحب من الملائكة وكان احد الحراس على جنة عدن صغير السن ولكن جبرائيل كان معجب بقدراتهِ.
أوعزت لهُ أن يسمي امرأة آدم بكاثرين لأنه اسم جميل ويوم من الأيام سترجع كاثرين ألا وهي حواء ولكن بروح أخرى وقلب أقوى.
“ولكن إبليس أبى واستكبر وأنتِ تعرفين أنّ الكبر لأمر عظيم. وهل تعرفين لماذا سخطَ الله عز وجل إبليس؟
“من أجل الكِبَر وأي كِبَر؟ لأنه رفض اسم كاثرين…”
قالت: “لكننا تعرفنا منذ برهة قليلة وكيف عرفت باسمي وبهذه القصة؟”
قال الأسود: “أيتها الحسناء أنتِ معروفة عند الملائكة والرب، أما أنا وبعد أن عرفتِ قصتي وكيف عزلت عن حُكم السماء، وهل تعرفين لماذا عُزلت؟”
قالت: “لا.”

قال: “لأنني وبعد أن عرفت برفض إبليس ورفضه لتسمية اسم امرأة آدم بكاثرين، بل أسماها حواء بعد أن دعوته مرارًا بتسميتها بكاثرين، فاعتبر الدعوة نوعًا من المعصية، ولكن أقل من معصية الشيطان، فحررني من مهمتي ولكنني لست بنادم.”
قالت: “أتعرف شيئاً، لقد كنت اليوم مرهقة وكلامك هذا سلب مني العذاب وأورد إليّ الراحة، مرّت الساعات ولم أشعر، أشعرت بذلك؟”
قال الأسود: “كيف لي أن اشعر وأنا الوقت، ولكن أتدرين لو جلست الدهر كله مرآة لكِ ما شعرت وما كللت.”
قالت: “شكرا لك يا أخي.”
قال الأسود: “سأقول لكِ شيئا أنا الأسود بين ثنايا الليل التائه بجبهة السّماء أُقِرُ لكِ أنني أحببتك، لكن تبدُدي لن يسمح لي بالبقاء، فاعذريني أيتها الحسناء، سأذهب بعيدًا بعيدًا بعيدًا…”

.

“هروب الأسود” لوسيم طربيه: نصّ عابر للرّوح البورجوازية/ ريم غنايم

ريم غنايم

عندما قرأتُ النّصوص التي أُرسلت إليّ في إطار هذا اللقاء الأدبيّ النقديّ، لفتَ انتباهي كناقدة موجة الأدب الشابّ الجارف والّذي يمتاز بعقليّة أو منطق ما يمكن تسميته ب “الكتابة البورجوازيّة المحاصرة” أو الكتابة المتوسّطة التي تلعب في منطقة الظّلّ. هذا النّوع من الكتابة هو محاولة يُبذل فيها مجهود كبير لخَلق أدبٍ جديد لكنّه يفضّل في الوقت ذاته ألاّ يجازف بطاقته كامِلاً باتّجاه هذا الجديد وإنّما البقاء في منطقة الوسط: الشعريّة المتوسّطة، اللغة المتوسّطة، الخلط بين الجوهر والسّطح، ورعشة الخوف من العوم في المناطق الوعرة للّغة والمضمون حتى النهاية.

النّص الذي لفت انتباهي، “هروب الأسود” لوسيم طربيه هو نصّ يتعدّى حاجز الخوف وهالة الكتابة البورجوازيّة المسيطرة، والذهاب أبعد قليلاً باتّجاه التّجريد وطرح الفكرة الفلسفيّة والاشتغال على إفساح مجال لعنصر التّخييل وتكثيف التّوصيف بما يتلاءم مع روح الفكرة الّتي لا تُصاب بضرر جرّاء الجرعات الزّائدة من هذا التوصيف، وإن كان هناك بعض المبالغة في الوصف في بعض الفقرات.

ملاحظات على نصّ هروب الأسود

النصّ التجريديّ هو نصّ جريء عُمومًا لأنّه يتوحّد مع ذاته ويسعى إلى إعادة صياغة الواقع بطريقة غرائبيّة، ولأنّه يحكي إلى حدّ ما تجربة الفنان أثناء عمليّة الخلق. النصّ هنا هو لوحة تجريديّة متحيّرة ومحيّرة في القراءة الأولى والقراءة الأخيرة. ويعتمد الكاتب أسلوب القصّ واللصق بهدف الإبهار. فهي أولا قصّة قصيرة داخلها شعر سورياليّ يتبنّى الكتابة الآليّة في بعض الفقرات- خصوصا الفقرات التي لا تتحرّك على مستوى الحبكة كقوله:

” هكذا أصبح الصباح والمساء متشابهين- لا باللون -إنما بالفكرة، اما العادة والتقليد فكُسِرا معا من على مذبح زيوس العظيم”.

أو كقوله على لسان البطلة المشاركة:

“أنجدني من سَكرَةِ المتوحش الساكن في عالم الخيال, ذاك الذي قبض على أعماقي وجرَّد الكاف من عذريتها, وأحرق الشرايين الطامحة وأوردها إلى الهلاك، حطم عالم الذكريات، جعلني احفر رمسي بساعدي واضع عليه اسمي معكوس الأحرف, فاقد المعنى, راضخاً للعنتريات الكاذبة، لأصبح آية من الحزن يا صديقي تُستشهَد بهِ الحضارات”.

وهي مسرحيّة حوارية تتماسّ مع البُعدين الفلسفيّ والأسطوريّ أو الخرافيّ- بطلها اثنان: “كاثي” الحسناء الحزينة وهي من البشر، وفي اسمها تتجلّى واقعيّة الواقع، والأسود الشخصيّة الرمزيّة التي تتقاطع مع فكرة الإله “الذي يحكم السّماء” أو الشيطان العاصي أو الملاك المعاقب. من خلال الحوار القصير تتّضح فكرة النصّ- فالأسود الذي لعنته السّماء يحكي للحسناء حكاية طرده من السّماء ومن خلالها يهدّىء من روعها ومن حزنها. ومن خلال هذين الكائنين الحزينين تتبدّى لنا فكرة الحزن بوجهها الفلسفيّ. فالأسود يطرد حزن الحسناء التي تصرّ على مناداته ب “أخي”- فيما يروي لها حكاية الاسم “حوّاء” الذي أراد لها أن تكون “كاثرين” قائلاً:

“أوعزتُ له ]أي للملاك-إبليس- الذي مُنح امتياز تسمية امرأة آدم[ أن يسمّي امرأة آدم بكاثرين لأنّه اسمٌ جميل ويوم من الأيّام سترجع كاثرين ألا وهي حوّاء ولكن بروح أخرى وقلب أقوى”.

من خلال إعادة حكاية تسمية امرأة آدم بين حواء وكاثرين، نتوصّل إلى حكمة النص: فحواء كانت سبب سقوط آدم، وكاثرين كانت سبب سقوط الأسود وعقابه. الحزن ليس حزن البطلة وإنّما حزن البطل الّذي حُكم عليه بالسقوط بسبب اسمها. في هروب الأسود حزن عميق يجرح والتناص مع قصّة امرأة آدم هو تناصّ تجريبيّ جديد وجريء وله فكرة واضحة.

في رأيي، ينجح الكاتب في تخطّي عثرة الشعريّة السطحيّة، ويتفوّق على الكتابة البورجوازيّة من خلال عدّة مستويات: الأول نجاحه في رسم كلّ فقرة بشكل هندسيّ بحدّ ذاته. الثاني المحافظة على تقنيّة الدّمج بين الألوان الأدبيّة في نصّ قصير. الثالث، بروز كميّة تخييل هائلة من بداية النص إلى نهايته والمستوى الأخير تثبيت الفكرة المعروضة بطريقة تجريديّة- فكرة السقوط الأزليّ. لكن الكاتب لا يعرضها بطريقة الواقعيّة ولا بطريقة الفكرة المفهومة ضمنًا. لعلّه بالغ بعض الشيء في بعض الجمل المتناثرة هنا وهناك الغارقة في المباشرة، لكنّ خروجه من لباس الواقعيّة عبر التخييل والتجريد يغفر له هذه المباشرة.

المحرر(ة): علاء حليحل

شارك(ي)

3 تعقيبات

  1. مبددددددددددددددددددددددددع يا وسيم

  2. نص كله ابداع, جميل ومتناسق, فلسفة عظيمة بالنجاح

  3. وسيم قدما والى الامام ,حماك الله ,النص رائع جدا ومعبر
    لا تهتم لقراءة النص خلال الندوه لان هذا كان نتيجة الضغط والرهبة من الجمهور والقاعة
    كلمات رائعة وجميل وان دل فانه يدل على المامك الثري واحساسك المرهف

أرسل(ي) تعقيبًا

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

يمكنك استخدام أكواد HTML والخصائص التالية: <a href="" title=""> <abbr title=""> <acronym title=""> <b> <blockquote cite=""> <cite> <code> <del datetime=""> <em> <i> <q cite=""> <strike> <strong>